الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : ودية النصراني واليهودي ثلث الدية واحتج في ذلك بعمر وعثمان رضي الله عنهما .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اختلف الفقهاء في دية اليهودي والنصراني من أهل الذمة والمعاهدين على أربعة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب أبي حنيفة : أنها كدية المسلم سواء .

                                                                                                                                            وبه قال من الصحابة ابن مسعود .

                                                                                                                                            ومن التابعين الزهري .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء الثوري وأبو يوسف ومحمد .

                                                                                                                                            والثاني : وهو مذهب مالك أنها نصف دية المسلم ، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب أحمد بن حنبل : إن قتل عمدا فمثل دية المسلم كقول أبي حنيفة ، وإن قتل خطأ فنصف دية المسلم كقول مالك .

                                                                                                                                            والرابع : وهو مذهب الشافعي : أن ديته ثلث دية المسلم في العمد والخطأ .

                                                                                                                                            وبه قال من الصحابة عمر وعثمان رضي الله عنهما .

                                                                                                                                            [ ص: 309 ] ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء ، ومن الفقهاء أبو ثور وإسحاق بن راهويه ، واستدل أبو حنيفة على أن ديته مثل دية المسلم بقول الله تعالى : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله [ النساء : 92 ] ثم قال تعالى : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله [ النساء : 92 ] فلما أطلق ذكر الدية فيها دل على تساويهما ، وبرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : دية اليهودي والنصراني مثل نصف دية المسلم وهذا نص .

                                                                                                                                            وروى مقسم عن ابن عباس أن عمرو بن أمية الضمري قتل كافرين لهما أمان ولم يعلم بأمانهما فوداهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده بدية حرين مسلمين .

                                                                                                                                            ولأنه حر محقوق الدم على التأبيد فوجب أن تكون ديته كاملة كالمسلم ، ولأن الحر مضمون يضمن بالدية والعبد يضمن بالقيمة ، فلما كملت قيمة العبد مسلما كان أو كافرا وجب أن تكمل دية الحر مسلما كان أو كافرا ، ولأن القتل موجب للدية والكفارة ، فلما تماثلت الكفارة في قتل المسلم والكافر وجب أن يتماثل الدية في قتل المسلم والكافر ، ولأن الكفر فسق ، والفسق لا تأثير له في الدية فكذلك الكفر ، ولأن الدية قد أوجبت حقن دمه وحفظ ماله ، فلما تساوى بها المسلم في ضمان ماله ساواه في ضمان نفسه .

                                                                                                                                            وأما مالك فدليله ما رواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دية المعاهد نصف دية المسلم ذكره أبو داود وقال أحمد بن حنبل : ليس في الأخبار أصح من هذا وروى سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلم وهم اليهود والنصارى ، ذكره رجاء بن المرجى الحافظ ، ولأن النقص نوعان : أنوثية وكفر ، فلما أوجب نقص الأنوثية إسقاط نصف الدية ، كذلك نقص الكفر .

                                                                                                                                            ودليلنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمون تتكافأ دماؤهم فدل على أن دماء الكفار لا تكافئهم .

                                                                                                                                            وروى ابن المنذر في كتابه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتاب عمرو بن حزم : وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل فجعل الإيمان شرطا في كمال الدية ، فوجب أن لا تكمل بعدمه .

                                                                                                                                            وروى موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى عن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 310 ] قضى أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ، وهذا نص ذكره أبو إسحاق المروزي في شرحه .

                                                                                                                                            فإن قيل : حديث من روى كمال الدية أزيد والأخذ بالزيادة أولى .

                                                                                                                                            فالجواب عنه أن خبرنا أزيد لفظا فكان أولى من خبرهم ، وإن كان أزيدهما لأن الأحكام مستنبطة من الألفاظ .

                                                                                                                                            فإن قيل : يحمل على أنه قضى في السنة الأولى ثلث الدية لتأجيل دية الخطأ في ثلاث سنين ، فالجواب عنه أن قضاءه بأن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم تدل على أن جميع ديته هذا القدر فلم يجز أن يحمل على قدرها وهو بعضها ، على أن ثلث الدية عندهم أقل من أربعة آلاف .

                                                                                                                                            فإن قيل : يحمل على أنه قوم إبل الدية بأربعة آلاف درهم قيل : لا يصح من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن القيمة تختلف فلم يجز أن تقدر في عموم الأحوال .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قضى بالدراهم ولم يقض بها قيمة ، على أنا روينا عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ، فبطل هذا التأويل .

                                                                                                                                            ومن القياس : أنه مكلف لا يكمل سهمه من القيمة فوجب أن لا تكمل ديته كالمرأة ، ولا ينتقص بالصبي والمجنون ، لعدم التكليف ، ولأنه لما نقصت دية المرأة المسلمة عن دية الرجل لنقصها بالأنوثية ، وجب أن تنقص دية الرجل الكافر عن دية المرأة المسلمة لنقصه بالكفر ، لأن الدية موضوعة على التفاضل ، ولأنه لما أثر أغلظ الكفر وهو الردة في إسقاط جميع الدية وجب أن يؤثر أخفه في تخفيف الدية ، لأن بعض الجملة مؤثر في بعض أحكامها ، ولأن اختلاف الأمة في قدر الدية توجب الأخذ بأقلها كاختلاف المقومين يوجب الأخذ بقول أقلهم تقويما ، لأنه اليقين .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بمطلق الدية في الآية فلا يمنع إطلاقها من اختلاف مقاديرها ، كما لم يمنع من اختلاف دية الرجل والمرأة ودية الجنين ، لأن الدية اسم لما يؤدى من قليل وكثير .

                                                                                                                                            وأما حديث عمرو بن شعيب فقد اختلفت الرواية عنه فتعارضت ، ويمكن حملها على أنها مثل دية المسلم في التغليظ والتخفيف والحلول والتأجيل حتى لا يكون نقصان قدرها موجبا لإسقاط حلولها وتغليظها .

                                                                                                                                            [ ص: 311 ] وأما الجواب عن حديث عمرو بن أمية فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لما تبرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحمل الدية عنه جاز أن يتبرع بالزيادة تألفا لقومهما .

                                                                                                                                            والثاني : يجوز أن يكونا أسلما بعد الجروح وقبل موتهما فكمل بالإسلام ديتهما .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسه على المسلم بعلة أنه محقون الدم على التأبيد ففاسد بالمرأة والعبد ، لا يقتضي حقن دمائهما على التأبيد كمال ديتهما ، كذلك الذمي ، على أن المعنى في المسلم كمال سهمه في الغنيمة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلاله بالعبد في استواء الكفر والإسلام في كمال قيمته فهو أنه لما تساوى فيهما الذكر والأنثى تساوى فيهما المسلم والكافر ، ولما اختلف في الدية الذكر والأنثى اختلف فيها المسلم والكافر ، وكذلك الجواب عن استدلاله بالكفارة أنه لما لم يمتنع التساوي فيها من اختلاف الذكر والأنثى في الدية كذلك تساوي المسلم والكافر فيها لا يمنع من اختلافهما في الدية .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بالفسق فهو أن الفسق لا يسلبه أحكام الإسلام ، فساوى في الدية ، والكفر يسلب أحكام الإسلام ، فخالف في الدية .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن ضمان ماله كالمسلم فهو أنه لما لم يختلف ضمانه في العمد والخطأ في حق الرجل والمرأة لم يختلف في حق المسلم والكافر ، ولما اختلف ضمان الدية في حق الرجل والمرأة اختلف في حق المسلم والكافر والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية