الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وإن كان عند علماء الطب من حال العين فلا يخلو علمهم بها من أحد أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يشهد عدولهم ببقاء بصرها في الحال وفي ثاني الحال .

                                                                                                                                            والثاني : أن يشهدوا ببقائه في الحال وجواز ذهابه في ثاني حال .

                                                                                                                                            والثالث : أن يشهدوا بذهابه في الحال وفي ثاني حال .

                                                                                                                                            والرابع : أن يشهدوا بذهابه في الحال وجواز عوده في ثاني حال .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول : إذا شهدوا ببقاء البصر في الحال وما بعدها حكم بشهادة عدلين منهم ، فبرئ الجاني من القود والدية ، ونظر في الجناية فإن كان لها أثر يوجب حكومة غرمها ولم يعزر ، وإن لم يكن لها أثر عزر أدبا ولم يغرم .

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : إذا شهدوا ببقاء بصره في حال وجواز ذهابه في ثاني حال لم [ ص: 251 ] يخل حال تجويزهم لذهابه من أن يقدروه بمدة أو لا يقدروه فإن قدروه بمدة فقالوا : يجوز أن يذهب سنة ولا يجوز أن يذهب بعدها ، فإن ذهب فيها وإلا فقد سلم منها عمل على شهادتهم ، ووقف المجني عليه سنة فإن ذهب بصره فيها كان الجاني مأخوذا بالقود في العمد والدية في الخطأ ، وإن ذهب بصره بعدها فلا شيء على الجاني ، ويؤخذ بالحكومة إذا كان لجنايته أثر ، ولا يعزر ولا حكومة إن لم يكن لها أثر ويعزر ، فعلى هذا لو جنى على عينه آخر ففقأها قبل ذهاب بصره كان الثاني هو المأخوذ فيها بالقود والدية دون الأول ، سواء فقأها قبل السنة أو بعدها ، لأنه جنى والبصر باق .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : إذا شهدوا بذهاب بصره في الحال وما بعدها فيحكم له بالقود في العبد إذا شهد من عدولهم رجلان ، وبالدية في الخطأ إذا شهد منهم رجل وامرأتان ، فلو عاد بصر المجني عليه بعد أن قضي له بالدية أو القود فالمذهب أن لا درك عليه بعودها فيما قضي له من قودها أو ديتها ، لأن عودها بها من عطايا الله تعالى وهباته ، وللشافعي في سن المثغور إذا قلعت واقتص منها أو أخذ ديتها ثم عادت فيثبت قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يلزمه رد ديتها ، فعلى هذا اختلف أصحابنا في تخريجه في العين إذا عاد بصرها هل يلزمه رد ديتها أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يلزمه ردها إذا عاد بصرها كما يلزمه ردها في السن .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يلزمه رد الدية بعود البصر ، ويلزمه ردها بعود السن .

                                                                                                                                            والفرق بينهما أن عود السن معهود في جنسه وعود البصر غير معهود في جنسه فاختلفا في الرد لاختلافهما في معهود العود ، وعلى هذا لو اقتص من بصر الجاني فعاد بصره بعد القصاص لم يؤخذ بذهابه ثانية على الصحيح من المذهب ، وهل يؤخذ به على القول المخرج في السن أم لا ؟ على الوجهين المذكورين لا يؤخذ به في أحدهما ويؤخذ به في الوجه الآخر ويقتص منه ثانية ، فإن عاد بعدها اقتص منه أبدا حتى يذهب فلا يعود .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : إذا شهدوا بذهاب بصره في الحال وجواز عوده في ثاني حال فلا يخلو حالهم فيه من أن يقدروا زمان عوده أو لا يقدروا ، فإن لم يقدروا وقالوا : يجوز أن يعود على الأبد إلى وقت الموت من غير تحديد ولا إياس لم توجب هذه الشهادة توقفا عن القصاص أو الدية ، وأخذ الجاني بهما في الحال ، لأن استحقاقه مانع من تعليقه بشرط يفضي ثبوته إلى سقوطه .

                                                                                                                                            وإن قدروا المدة وقالوا : يجوز أن يعود إلى سنة إن كان من ظلمة غطت الباطن ، ولا يجوز أن يعود بعدها ، لأنه من ذهاب الباطن حبس الجاني ، ووقف البصر إلى [ ص: 252 ] سنة ، فإن عاد فيها برئ الجاني من القود والدية ، وكان مأخوذا بحكومة الجناية إن أثرت ، ولم يعزر ، وإن لم تؤثر عزر ولم يغرم ، وإن لم يعد في السنة حتى انقضت أخذ الجاني بالقود في العمد والدية في الخطأ ، فعلى هذا لو جنى عليه قبل انقضاء السنة آخر ففقأ عينه فدية البصر والقود فيه على الأول دون الثاني ، لأنه ذهب بجناية الأول ولم يعد عند جناية الثاني ، فلو اختلف الأول والثاني ، فقال الأول : عاد البصر قبل جنايتك فأنت المأخوذ بالقود فيه أو الدية دوني .

                                                                                                                                            وقال الثاني : بل كان البصر عند جنايتي على ذهابه فأنت المأخوذ فيه بالقود أو الدية دوني ، فالقول قول الثاني مع يمينه دون الأول ، لأننا على يقين من ذهابه وفي شك من عوده .

                                                                                                                                            فإن ادعيا علم المجني عليه لم يخل حاله إن أجاب من أحد أمرين : إما أن يصدق الأول أو الثاني ، فإن صدق الثاني أن بصره لم يعد حلف للأول وإن طلب يمينه ، وقضي عليه بالقود أو الدية .

                                                                                                                                            وإن صدق الأول أن بصره عاد قبل جناية الثاني برئ الأول من القود والدية بتصديقه ، ولم يقبل قوله على الثاني ، وصارت عينه هدرا ، لأنه قد استأنف بتصديق الأول دعوى على الثاني ، وشهادة للأول فلم تقبل دعواه على الثاني ، ولم يستمع شهادته للأول لما فيها من اجتلاب النفع ، ولو لم يجن عليه ثان ولكن مات قبل انقضاء السنة كان الجاني مأخوذا بالقود والدية ، لأنه أذهب بصرا لم يعد ، وفي سن من لم يثغر إذا قلعت فقد عودها إلى مدة مات قبلها قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجب فيه الدية ، لأن الظاهر عودها في المدة لو عاش إليها ، فعلى هذا القول اختلف أصحابنا في تخريجه في العين على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يجيء تخريج قول ثان في العين أنه لا يلزمه القود ولا الدية وتلزمه حكومة كموته في مدة السن .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجيء تخريج هذا القول في العين وإن خرج في السن ، لما قدمنا من الفرق بين السن والعين ، فلو اختلف الجاني ووليه بعد موته ، فقال الجاني : عاد بصره قبل الموت ، وقال الولي : لم يعد ، [ ص: 253 ] فالقول قول الولي مع يمينه أن بصره لم يعد ، ويكون الجاني مأخوذا بالقود أو الدية ، فإن نكل الولي حلف الجاني وبرئ منهما ، ولو لم يذهب بصر المجني عليه في حال الجناية وذهب بعدها نظر ، فإن كان لم يزل عليل العين أو شديد الألم إلى أن ذهب بصره فالظاهر ذهابه من الجناية فيكون الجاني مأخوذا بالقود فيه أو الدية كالمجروح إذا لم يزل صبيا حتى مات .

                                                                                                                                            وإن برأت عينه وزال ألمها ثم ذهب بصرها كان ذاهبا من غير الجناية في الظاهر ، فلا يلزمه قود ولا دية ، وللمجني عليه الإحلاف بالله لقد ذهب البصر من غير جناية إن ادعى ذهابه منها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية