الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) ، أي : أرسل النبيين مبشرين بثواب من أطاع ، ومنذرين بعقاب من عصى ، وقدم البشارة لأنها أبهج للنفس ، وأقبل لما يلقي النبي ، وفيها اطمئنان المكلف ، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة ، ومنه : ( فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ) ، وانتصاب مبشرين ومنذرين على الحال المقارنة . ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ) معهم : حال من الكتاب ، وليس تعمل فيه أنزل ؛ إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال ، وليسوا متصفين ، وهي حال مقدرة ، أي : وأنزل الكتاب مصاحبا لهم وقت الإنزال ، لم يكن مصاحبا لهم لكنه انتهى إليهم . والكتاب : إما أن تكون " أل " فيه للجنس ، وإما أن تكون للعهد ، على تأويل معهم ، بمعنى مع كل واحد منهم ، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب ، وهو التوراة ، قاله الطبري ، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده ، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم ، ويضعف أن يكون مفردا وضع موضع الجمع ، وقد قيل به ، ويحتمل بالحق أن يكون متعلقا بـ " أنزل " ، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل ؛ لأنه يراد به المكتوب ، أو بمحذوف ؛ فيكون في موضع الحال من الكتاب ، أي : مصحوبا بالحق ، وتكون حالا مؤكدة ؛ لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها ، وهذه الجملة معطوفة على قوله : ( فبعث الله ) . ولا يقال : إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي ، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب [ ص: 136 ] فلم قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه ؟ لأنه ذلك لا يلزم ، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي الله لنبيه دون أن يكون ذلك كتابا يتلى ويكتب ، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى ؛ لأنهما حالان من النبيين ، فناسب اتصالهما بهم ، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب .

وقال القاضي : الوعد والوعيد من الأنبياء - عليهم السلام - قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من معرفة الله تعالى ، وترك الظلم وغيرهما ، انتهى كلامه . وما ذكر لا يظهر ؛ لأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ليسا مما يقضي بهما العقل وحده على جهة الوجوب ، وإنما ذلك على سبيل الجواز ، ثم أتى الشرع بهما ، فصار ذلك الجائز في العقل واجبا بالشرع ، وما كان بجهة الإمكان العقلي لا يتصف به النبي على سبيل الوجوب إلا بعد الوحي قطعا ؛ فإذن يتقدم الوحي بالوعد والوعيد على ظهور البشارة والنذارة ممن أوحي إليه قطعا . قال القاضي : وظاهر الآية يدل على أنه لا نبي إلا ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق ، طال ذلك الكتاب أو قصر ، دون أو لم يدون ، كان معجزا أو لم يكن ؛ لأن كون الكتاب منزلا معهم لا يقضي شيئا من ذلك . انتهى كلامه . ويحتمل أن يكون التجوز في : أنزل ، فيكون بمعنى : جعل ، كقوله : ( وأنزلنا الحديد ) ، ولما كان الإنزال الكثير منهم نسب إلى الجميع ، ويحتمل أن يكون التجوز في الكتاب ؛ فيكون بمعنى الموحى به ، ولما كان كثيرا مما أوحى به بكتب ، أطلق على الجميع الكتاب ؛ تسمية للمجموع باسم كثير من أجزائه .

التالي السابق


الخدمات العلمية