الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) تقدم تفسير مثل هذا في قوله : ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) وفسر اللبس بالخلط والتغطية ، وتكلم المفسرون هنا ، ففسروا الحق بما يجدونه في كتبهم من صفة الرسول ، والباطل الذي يكتبونه بأيديهم ويحرفونه : قال [ ص: 491 ] معناه الحسن وابن زيد . وقيل : إظهار الإسلام ، وإبطال اليهودية والنصرانية ، قال قتادة ، وابن جرير والثعلبي . وقيل : الإيمان بموسى و عيسى ، والكفر بالرسول . وقال أبو علي : يتأولون الآيات التي فيها الدلالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - على خلاف تأويلها ، ليظهر منها للعوام خلاف ما هي عليه ، وأنتم تعلمون بطلان ما تقولون . وقيل : هو ما ذكره تعالى بعد ذلك من قوله : ( آمنوا بالذي أنزل ) وقيل : إقرارهم ببعض أمر النبي - صلى الله عليه وسلم . والباطل : كتمانهم لبعض أمره ، وهذان القولان عن ابن عباس . وقيل : إقرارهم بنبوته ورسالته ، والباطل قول أحبارهم : ليس رسولا إلينا ، بل شريعتنا مؤبدة . وقرأ يحيى بن وثاب : تلبسون ، بفتح الباء مضارع لبس ، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه ، والباء في : بالباطل ، للحال أي مصحوبا بالباطل .

وقرأ أبو ‌مجلز : تلبسون ، بضم التاء ، وكسر الباء المشددة ، والتشديد هنا للتكثير ، كقولهم : جرحت وقتلت ، وأجاز الفراء ، والزجاج في : ويكتمون ، النصب ، فتسقط النون من حيث العربية على قولك : لم تجمعون ذا وذا ؟ فيكون نصبا على الصرف في قول الكوفيين ، وبإضمار : أن ، في قول البصريين . وأنكر ذلك أبو علي ، وقال : الاستفهام وقع على اللبس فحسب . وأما يكتمون ، فخبر حتما لا يجوز فيه إلا الرفع ، بمعنى أنه ليس معطوفا على تلبسون ، بل هو استئناف ، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق ، وقال ابن عطية : قال أبو علي : الصرف هاهنا يقبح ، وكذلك إضمار : أن ، لأن يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وبمنزلة قولك : أتقوم فأقوم ؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب ، إلا في ضرورة شعر ، كما روي :


وألحق بالحجاز فأستريحا



وقد قال سيبويه : في قولك : أسرت حتى تدخلها ، لا يجوز إلا النصب ، [ ص: 492 ] في : تدخل ، لأن السير مستفهم عنه غير موجب . وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلها ، رفعت ; لأن السير موجب ، والاستفهام إنما وقع عن غيره انتهى ما نقله ابن عطية عن أبي علي . والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله ، لأن ما قبله فيه : أن الاستفهام وقع على اللبس فحسب ، وأما : يكتمون ، فخبر حتما لا يجوز فيه إلا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون : ويكتمون ، إخبارا محضا لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه ، تبعه في ذلك ابن مالك . فقال في ( التسهيل ) حين عد ما يضمر أن ، لزوما في الجواب ، فقال : أو لاستفهام لا يتضمن وقوع الفعل ، فإن تضمن وقع الفعل لم يجز النصب عنده ، نحو : لم ضربت زيدا ، فيجازيك ؟ لأن الضرب قد وقع ، ولم نر أحدا من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي ، وتبعه فيه ابن مالك في الاستفهام ، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله ، إما لكونه ليس ثم فعل ، ولا ما في معناه ينسبك منه ، وإما لاستحالة سبك مصدر ، مراد استقباله ، لأجل مضي الفعل ، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى ، فإذا قال : لم ضربت زيدا فأضربك ؟ . أي : ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا ، وما رد به أبو علي ، على أبي إسحاق ليس بمتجه ; لأن قوله : ( لم تلبسون ) ليس نصا على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة ، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره ، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله . ولو فرضنا أنه ماض حقيقة ، فلا رد فيه على أبي إسحاق ، لأنه كما قررنا قبل : إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة ، سبكناه من لازم الجملة .

وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع ، نحو : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ وكذلك في : كم مالك فنعرفه ؟ ومن أبوك فنكرمه ؟ لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا . وليكن : منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا . وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام منا له . وقرأ عبيد بن عمير : لم تلبسوا ، وتكتموا ، بحذف النون فيهما ، قالوا : وذلك جزم ، قالوا : ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق : لم ، بـ " لم " في عمل الجزم . وقال السجاوندي : ولا وجه له إلا أن : لم ، تجزم الفعل عند قوم كلم انتهى . والثابت في لسان العرب أن لم ، لا ينجزم ما بعدها ، ولم أر أحدا من النحويين ذكر أن " لم " تجري مجرى : " لم " في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا ، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع ، وقد جاء ذلك في النثر قليلا جدا ، وذلك في قراءة أبي عمر ، ومن بعض طرقه قالوا : ساحران تظاهران ، بتشديد الظاء ، أي : أنتما ساحران تتظاهران فأدغم التاء في الظاء ، وحذف النون ، وأما في النظم ، فنحو قول الراجز :


أبيت أسري وتبيتي تدلكي



يريد : وتبيتين تدلكين . وقال :


فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو     ستحتلبوها لاقحا غير باهل



والظاهر : أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل ، وكتم الحق ، وكأن الحق منقسم إلى قسمين : قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز ، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر . ( وأنتم تعلمون ) جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه ، أي : لا يناسب من علم الحق أن يكتمه ، ولا أن يخلطه بالباطل ، والسؤال عن السبب ، سؤال عن المسبب ، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب ، وختمت الآية قبل هذه بقوله : ( وأنتم تشهدون ) وهذه بقوله : ( وأنتم تعلمون ) لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر [ ص: 493 ] بآيات الله ، وهي أخص من الحق ، لأن آيات الله بعض الحق ، والشهادة أخص من العلم ، فناسب الأخص الأخص ، وهنا الحق أعم من الآيات وغيرها ، والعلم أعم من الشهادة ، فناسب الأعم الأعم . وقالوا في قوله : ( وأنتم تعلمون ) أي : أنه نبي حق ، وأن ما جاء به من عند الله حق . وقيل : قال : ( وأنتم تعلمون ) ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف ، ويقوم عليهم به الحجة . وقيل : ( وأنتم تعلمون ) الحق بما عرفتموه من كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم . وفي هذه الآيات أنواع من البديع : الطباق في قوله : الحق بالباطل ، والطباق المعنوي في قوله : ( لم تكفرون وأنتم تشهدون ) لأن الشهادة إقرار وإظهار ، والكفر ستر . والتجنيس المماثل في : يضلونكم ومايضلون . والتكرار في : أهل الكتاب . والحذف في مواضع قد بينت .

التالي السابق


الخدمات العلمية