الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) : روى البخاري ، عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم يكن فيهم الدية . فقال الله تعالى [ ص: 9 ] هذه الآية . وقال قتادة والشعبي : نزلت في قوم من العرب أعزة أقوياء لا يقتلون بالعبد منهم إلا سيدا ، ولا بالمرأة إلا رجلا . وقال السدي ، وأبو مالك : نزلت في فريقين أحدهما مسلم ، والآخر كافر معاهد ، كان بينهما على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتال ، فقتل من كلا الفريقين جماعة من رجال ونساء وعبيد ، فنزلت ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية الرجل قصاصا بدية الرجل ، ودية المرأة قصاصا بدية المرأة ، ودية العبد قصاصا بدية العبد ، ثم أصلح بينهما .

وقيل : نزلت في حيين من العرب اقتتلوا قبل الإسلام ، وكان بينهما قتلى وجراحات لم يأخذ بعضهم من بعض . قال ابن جبير : هما الأوس والخزرج . وقال مقاتل بن حيان : هما قريظة والنضير ، وكان لأحدهما طول على الأخرى في الكثرة والشرف ، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور ، وأقسموا ليقتلن بالعبد الحر ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك ، وكذلك كانوا يعاملونهم في الجاهلية ، فرفعوا أمرهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت ، وأمرهم بالمساواة فرضوا ، وفي ذلك قال قائلهم :


هم قتلوا فيكم مظنة واحد ثمانية ثم استمروا فأربعوا



وروي أن بعض غني قتل شاس بن زهير ، فجمع عليهم أبوه زهير بن خزيمة فقالوا له ، وقال له بعض من يذب عنهم : سل في قتل شاس ، فقال : إحدى ثلاث لا يرضيني غيرهن ، فقالوا : ما هن ؟ فقال : تحيون شاسا ، أو تملئون داري من نجوم السماء ، أو تدفعون لي غنيا بأسرها فأقتلها ، ثم لا أرى أني أخذت عوضا .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما حلل ما حلل قبل ، وحرم ما حرم ، ثم أتبع بذكر من أخذ مالا من غير وجهه ، وأنه ما يأكل في بطنه إلا النار ، واقتضى ذلك انتظام جميع المحرمات من الأموال ، ثم أعقب ذلك بذكر من اتصف بالبر ، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها ، أخذ يذكر تحريم الدماء ، ويستدعي حفظها وصونها ، فنبه بمشروعية القصاص على تحريمها ، ونبه على جواز أخذ مال بسببها ، وأنه ليس من المال الذي يؤخذ من غير وجهه ، وكان تقديم تبيين ما أحل الله وما حرم من المأكول على تبيين مشروعية القصاص لعموم البلوى بالمأكول : لأن به قوام البنية وحفظ صورة الإنسان . ثم ذكر حكم متلف تلك الصورة : لأن من كان مؤمنا يندر منه وقوع القتل ، فهو بالنسبة لمن اتصف بالأوصاف السابقة بعيد منه وقوع ذلك ، وكان ذكر تقديم ما تعم به البلوى أعم ، ونبه أيضا على أنه ، وإن عرض مثل هذا الأمر الفظيع لمن اتصف بالبر ، فليس ذلك مخرجا له عن البر ، ولا عن الإيمان ، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال : ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) . وأصل الكتابة : الخط الذي يقرأ ، وعبر به هنا عن معنى الإلزام والإثبات ، أي : فرض وأثبت : لأن ما كتب جدير بثبوته وبقائه .

وقيل : هو على حقيقته ، وهو إخبار عن ما كتب في اللوح المحفوظ ، وسبق به القضاء . وقيل : معنى كتب : أمر ، كقوله : ( ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) أي : التي أمرتم بدخولها . وقيل : يأتي كتب بمعنى جعل ، ومنه ( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) ، ( فسأكتبها للذين يتقون ) ، وتعدي كتب هنا بعلى يشعر بالفرض والوجوب ، و ( في القتلى ) في هنا للسببية ، أي : بسبب القتلى ، مثل : " دخلت امرأة النار في هرة " . والمعنى : أنكم أيها المؤمنون وجب عليكم استيفاء القصاص من القاتل بسبب قتل القتلى بغير موجب ، ويكون الوجوب متعلق الإمام أو من يجرى مجراه في استيفاء الحقوق إذا أراد ولي الدم استيفاءه ، أو يكون ذلك خطابا مع القاتل ، والتقدير : يا أيها القاتلون ، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص ، وذلك أنه يجب على القاتل ، إذا أراد الولي قتله ، أن يستسلم لأمر الله وينقاد لقصاصه المشروع ، وليس له أن يمتنع بخلاف الزاني والسارق ، فإن لهما الهرب [ ص: 10 ] من الحد ، ولهما أن يستترا بستر الله ، ولهما أن لا يعترفا ويجب على الولي الوقوف عند قاتل وليه ، وأن لا يتعدى على غيره ، كما كانت العرب تفعل بأن تقتل غير قاتل قتيلها من قومه ، وهذا الكتب في القصاص مخصوص بأن لا يرضى الولي بدية أو عفو ، وإنما القصاص هو الغاية عند التشاحن ، وأما إذا رضي بدون القصاص من دية أو عفو فلا قصاص . قال الراغب : فإن قيل على من يتوجه هذا الوجوب ؟ قيل على الناس كافة ، فمنهم من يلزمه تسليم النفس ، وهو القاتل ، ومنهم من يلزمه استيفاؤه ، وهو الإمام إذا طلبه الولي ، ومنهم من يلزمه المعاونة والرضا ، ومنهم من يلزمه أن لا يتعدى ، بل يقتص أو يأخذ الدية ، والقصد بالآية منع التعدي ، فإن أهل الجاهلية كانوا يتعدون في القتل ، وربما لا يرضى أحدهم إذا قتل عبدهم إلا بقتل حر . اهـ كلامه .

وتلخص في قوله : ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) ثلاثة أقوال ، أحدها : أنهم الأئمة ومن يقوم مقامهم . الثاني : أنهم القاتلون . الثالث : أنهم جميع المؤمنين على ما أوضحناه .

وقد اختلف في هذه الآية ، أهي ناسخة أم منسوخة ؟ فقال الحسن : نزلت في نسخ التراجع الذي كانوا يفعلونه ، إذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين قتله مع تأدية نصف الدية ، وبين أخذ نصف دية الرجل وتركه ، وإن كان قاتل الرجل امرأة ، كان أولياء المقتول بالخيار بين قتل المرأة وأخذ نصف دية الرجل ، وإن شاءوا أخذوا الدية كاملة ولم يقتلوها . قال : فنسخت هذه الآية ما كانوا يفعلونه ، اهـ . ولا يكون هذا نسخا : لأن فعلهم ذلك ليس حكما من أحكام الله فينسخ بهذه الآية . وقال ابن عباس : هي منسوخة بآية المائدة ، وسيأتي الكلام في هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية