الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) ، هذا نهي عن حلق الرأس مغيا ببلوغ الهدي محله ، ومفهومه : إذا بلغ الهدي محله فاحلقوا رءوسكم . والضمير في " تحلقوا " يحتمل أن يعود على المخاطبين بالإتمام ، فيشمل المحصر وغيره ، ويحتمل أن يعود على المحصرين ، وكلا الاحتمالين قال به قوم ، وأن يكون خطابا للمحصرين ، هو قول الزمخشري ، قال : أي : لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله ، أي : مكانه الذي يجب نحره فيه ، ومحل الدين وقت وجوب قضائه ، وهو على ظاهر مذهب أبي حنيفة ، انتهى كلامه .

وكأنه رجح كونه للمحصرين : لأنه أقرب مذكور ، وظاهر قول ابن عطية أنه يختار أن يكون الخطاب لجميع الأمة ، محصرا كان المحرم أو مخلى : لأنه قدم هذا القول ، ثم حكى القول الآخر ، قال : ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة في قوله : ( ولا تحلقوا رءوسكم ) ، مجاز في الفاعل وفي المفعول ، أما في الفاعل ففي إسناد الحلق إلى الجميع ، وإنما يحلق بعضهم رأس بعض ، وهو مجاز شائع كثير ، تقول : حلقت رأسي ، والمعنى أن غيره حلقه له ، وأما المجاز في المفعول ، فالتقدير : شعر رءوسكم ، فهو على حذف مضاف ، والخطاب يخص الذكور ، والحلق للنساء مثله في الحج وغيره ، وإنما التقصير سنتهن في الحج .

وخرج أبو داود ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " ليس على النساء حلق ، إنما عليهن التقصير " . وأجمع أهل العلم على القول به ، واختلفوا في مقدار ما يقصر من شعرها على تقادير كثيرة ذكرت في الفقه ، ولم تتعرض هذه الآية للتقصير فنتعرض نحن له هنا ، وإنما استطردنا له من قوله : ( ولا تحلقوا ) . وظاهر النهي : الحظر والتحريم حتى يبلغ الهدي محله ، فلو نسي فحلق قبل النحر ، فقال أبو حنيفة ، وابن الماجشون : هو كالعامد ، وقال ابن القاسم : لا شيء عليه ، أو تعمد ، فقال أبو حنيفة ، ومالك : لا يجوز . وقال الشافعي : يجوز . قالوا : وهو مخالف لظاهر الآية .

ودلت الآية على أن من النسك في الحج حلق الرأس ، فيدل ذلك على جوازه في غير الحج ، خلافا لمن قال : إن حلق الرأس في غير الحج مثلة : لأنه لو كان مثلة لما جاز ، لا في الحج ولا غيره .

وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلق رءوس بني جعفر بعد أن أتاه خبر قتله بثلاثة أيام ، وكان علي يحلق ، وقال أبو عمرو بن عبد البر : أجمع العلماء على إباحة الحلق ، وظاهر عموم : ( ولا تحلقوا ) ، أو خصوصه بالمحصرين أن الحلق في حقهم نسك ، وهو قول مالك ، وأبو يوسف .

وقال أبو حنيفة ، ومحمد : لا حلق على [ ص: 75 ] المحصر ، والقولان عن الشافعي . ( حتى يبلغ الهدي محله ) : حيث أحصر من حل أو حرم ، قاله عمر ، والمسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، أو المحرم ، قاله علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وتفسيرهم يدل على أن المحل هنا المكان ، ولم يقرأ إلا بكسر الحاء . فيما علمنا ، ويجوز الفتح ، أعني إذا كان يراد به المكان ، وفرق الكسائي هنا ، فقال : الكسر هو الإحلال من الإحرام ، والفتح هو موضع الحلول من الإحصار ، وقد تقدم طرف من القول في محل الهدي ، ولم تتعرض الآية لما على المحصر في الحج إذا تحلل بالهدي ، فعن النسيء عليه حجة ، وقال الحسن ، وابن سيرين ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والقاسم ، وابن مسعود فيما روى عنه مجاهد ، وابن عباس ، فيما روى عنه ابن جبير : عليه حجة وعمرة ، فإن جمع بينهما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع ، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه ، فإن كان المحصر بمرض أو عدو ، محرما بحج تطوع ، أو بعمرة تطوع ، وحل بالهدي فعليه القضاء عند أبي حنيفة ، وقال مالك ، والشافعي : لا قضاء على من أحصر بعدو لا في حج ولا في عمرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية