الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) . سبب نزولها أن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية ، كعكاظ ، وذي المجاز ، ومجنة ، فأباح الله لهم ذلك ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وقال مجاهد أيضا : كان بعض العرب لا ينحرون مذ يحرمون ، فنزلت في إباحة ذلك ، وروي عن ابن عمر أنها نزلت فيمن يكرى في الحج ، وأن حجه تام . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الزبير : " فضلا من ربكم في مواسم الحج " ، والأولى جعل هذا تفسيرا : لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمعت عليه الأمة .

والجناح معناه : الدرك ، وهو أعم من الإثم : لأنه فيما يقتضي العقاب ، وفيما يقتضي الزجر والعقاب ، وعنى بالفضل هنا الأرباح التي تكون سبب التجارة ، وكذلك ما تحصل عن الأجر بالكراء في الحج ، وقد انعقد الإجماع على جواز التجارة والاكتساب - بالكل - والإتجار إذا أتى بالحج على وجهه ، إلا ما نقل شاذا عن سعيد بن جبير ، وأنه سأله أعرابي أنا أكري إبلي ، وأنا أريد الحج أفيجزيني ؟ قال : " لا ، ولا كرامة " . وهذا مخالف لظاهر الكتاب والإجماع فلا يعول عليه .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما نهى عن الجدال ، والتجارة قد تفضي إلى المنازعة ، ناسب أن يتوقف فيها : لأن ما أفضى إلى المنهي عنه منهي عنه ، أو لأن التجارة كانت محرمة عند أهل الجاهلية وقت الحج ، إذ من يشتغل بالعبادة يناسبه أن لا يشغل نفسه بالأكساب الدنيوية ، أو لأن المسلمين لما صار كثير من المباحات محرما عليهم في الحج ، كانوا بصدد أن تكون التجارة من هذا القبيل عندهم ، فأباح الله ذلك ، وأخبرهم أنه لا درك عليهم فيه في أيام الحج . ويؤيد ذلك قراءة من قرأ : في مواسم الحج . وحمل أبو مسلم الآية على أنه فيما بعد الحج ، ونظيره : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) ، فقاس الحج على الصلاة ، وضعف قوله بدخول الفاء في " فإذا قضيتم " ، وهذا فصل بعد ابتغاء الفضل ، فدل على أن ما قبل الإفاضة وقع في زمان الحج . ولأن محل شبهة الامتناع هو التجارة في زمان الحج ، لا بعد الفراغ [ ص: 95 ] منه ، لأن كل أحد يعلم حل التجارة إذ ذاك ، فحمله على محل الشبهة أولى ، ولأن قياس الحج على الصلاة قياس فاسد : لاتصال أعمال الصلاة بعضها ببعض ، وافتراق أعمال الحج بعضها من بعض ، ففي خلالها يبقى الحج على الحكم الأول : حيث لم يكن حاجا ، لا يقال : حكم الحج منسحب عليه في تلك الأوقات ، بدليل حرمة الطيب واللبس ونحوهما : لأنه قياس في مقابلة النص ، فهو ساقط ونسب إليه . فإن الفضل هنا هو ما يعمل الإنسان مما يرجو به فضل الله ورحمته ، من إعانة ضعيف ، وإغاثة ملهوف ، وإطعام جائع ، واعترضه القاضي بأن هذه الأشياء واجبة أو مندوب إليها ، فلا يقال فيها " لا جناح عليكم " ، إنما يقال في المباحات والتجارة إن أوقعت نقصا في الطاعة ، لم تكن مباحة ، وإن لم توقع نقصا فالأولى تركها ، فهي إذا جارية مجرى الرخص . وتقدم إعراب مثل : أن تبتغوا ، في قوله : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) ، و " من ربكم " متعلق بـ " تبتغوا " و " من " لابتداء الغاية ، أو بمحذوف ، وتكون صفة لفضل . فتكون " من " لابتداء الغاية أيضا ، أو للتبعيض ، فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف أي : من فضول .

( فإذا أفضتم من عرفات ) ، قيل : فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة : لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده . انتهى هذا القول ، ولا يظهر من هذا الشرط الوجوب ، إنما يعلم منه الحصول في عرفة ، والوقوف بها ، فهل ذلك على سبيل الوجوب أو الندب ؟ لا دليل في الآية على ذلك ، لكن السنة الثابتة والإجماع يدلان على ذلك . وقال في ( المنتخب ) : الإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب ، فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، فإذا لم يأت به لم يكن إيتاء بالحج المأمور به ، فوجب أن لا يخرج عن العهدة ، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطا ، انتهى كلامه .

فقوله : الإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، كلام مبهم ، فإن عني مشروط وجودها ، أي : وجود الإفاضة بالحصول في عرفات فصحيح ، والوجود لا يدل على الوجوب ، وإن عني مشروط وجوبها بالحصول في عرفات فلا نسلم ذلك ، بل نقول : لو وقف بعرفة واتخذها مسكنا إلى أن مات لم تجب عليه الإفاضة منها ، ولم يكن مفرطا في واجب إذا مات بها ، وحجه تام إذا كان قد أتى بالأركان كلها . وقوله : وما لا يتم الواجب إلى آخر الجملة ، مرتبة على أن الإفاضة واجبة ، وقد منعنا ذلك ، وقوله : فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، مبني على ما قبله ، وقد بينا أنه لا يلزم ذلك ، و " إذا " لا تدل على تعين زمان ، بل تدل على تيقن الوجود أو رجحانه ، فظاهره يقتضي أنه متى أفاض من عرفات جاز له ذلك ، واقتضى ذلك أن الوقوف بعرفة الذي تعتقبه الإفاضة كان مجزيا .

ووقت الوقوف من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر بلا خلاف ، وأجمعوا على أن من وقف بالليل فحجه تام ، ولو أفاض قبل الغروب ، وكان وقف بعد الزوال ، فأجمعوا على أن حجه تام ، إلا مالكا فقال : يبطل حجه . وروي نحوه عن الزبير ، وقال مالك : ويحج من قابل وعليه هدي ينحره في حجه القابل . ومن قال : حجه تام ، فقال الحسن : عليه هدي ، وقال ابن جريج : بدنة ، وقال عطاء ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : عليه دم . ولو أفاض قبل الغروب ثم عاد إلى عرفة ، فدفع بعد الغروب ، فذهب أبو حنيفة ، والثوري ، وأبو ثور ، إلى أنه لا يسقط الدم . وذهب الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود الطبري إلى أنه لا شيء عليه . وحديث عروة بن مضرس : وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه ، موافق لظاهر الآية في عدم اشتراط جزء من الليل إلا ما صد عنه الإجماع من أن الوقوف قبل الزوال لا يجزي ، وأن من أفاض نهارا لا شيء عليه . ومن ، في قوله " من عرفات " لابتداء الغاية ، وهي تتعلق بـ " أفضتم " ، وظاهر هذا اللفظ يقتضي عموم عرفات [ ص: 96 ] فمن أي نواحيها أفاض أجزأه ، ويقتضي ذلك جواز الوقوف ، بأي نواحيها وقف ، والجمهور على أن عرنة من عرفات . وحكى الباجي ، عن ابن حبيب أن عرنة في الحل ، وعرنة في الحرم ، وقيل : الجدار الغربي من مسجد عرنة ، لو سقط سقط في بطن عرنة ، ومن قال : بطن عرنة من عرفات ، فلو وقف بها . فروي عن ابن عباس ، والقاسم ، وسالم أنه : من أفاض من عرنة لا حج له ، وذكره ابن المنذر عن الشافعي ، وأبو المصعب عن مالك ، وروى خالد بن نوار عن مالك أن حجه تام . ويهريق دما ، وذكره ابن المنذر عن مالك أيضا . وروى : " عرفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة " ، وأكثر الآثار ليس فيها هذا الاستثناء ، فهي كظاهر الآية . وكيفية الإفاضة أن يسيروا سيرا جميلا ، ولا يطئوا ضعيفا ، ولا يؤذوا ماشيا ، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - إذا دفع من ئ عرفات أعنق ، وإذا وجد فرجة نص . والعنق : سير سريع مع رفق ، والنص : سير شديد فوق العنق ، قاله الأصمعي ، والنضر بن شميل . ولو تأخر الإمام من غير عذر دفع الناس . والتعريف الذي يصنعه الناس في المساجد تشبيها بأهل عرفة غير مشروع ، فقال بعض أهل العلم : هو ليس بشيء ، وأول من عرف ابن عباس بالبصرة ، وعرف أيضا عمرو بن حريث ، وقال أحمد : أرجو أن لا يكون به بأس ، وقد فعله غير واحد ، الحسن ، وبكر ، وثابت ، ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة .

وأما الصوم يوم عرفة للواقفين بها ، فقال يحيى بن سعيد الأنصاري : يجب عليهم الفطر ، وأجازه بعضهم ، وصامه عثمان بن القاضي ، وابن الزبير ، وعائشة . وقال عطاء : أصومه في الشتاء ولا أصومه في الصيف ، والجمهور على أن ترك الصوم أولى ؛ اتباعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية