الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ) ، ارتد : افتعل من الرد ، وهو الرجوع ، كما قال تعالى : ( فارتدا على آثارهما قصصا ) ، وقد عدها بعضهم فيما يتعدى إلى اثنين ؛ إذا كانت عنده بمعنى صير وجعل ، من ذلك قوله : ( فارتد بصيرا ) ، أي : صار بصيرا ، ولم يختلف هنا في فك المثلين ، والفك هو لغة الحجاز ، وجاء افتعل هنا بمعنى التعمل والتكسب ؛ لأنه متكلف ؛ إذ من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه ؛ فلذلك جاء افتعل هنا ، وهذا المعنى - وهو التعمل والتكسب - هو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل . و " منكم " في موضع الحال من الضمير المستكن في " يرتدد " العائد على " من " ، و " من " للتبعيض ، و " عن دينه " متعلق بيرتدد ، والدين هنا هو الإسلام ؛ لأن الخطاب مع المسلمين ، والمرتد إليه هو دين الكفر ؛ بدليل أن ضد الحق الباطل ؛ وبقوله : ( فيمت وهو كافر ) ، وهذان شرطان أحدهما معطوف على الآخر بالفاء المشعرة بتعقيب الموت على الكفر بعد الردة واتصاله بها ، ورتب عليه حبوط العمل في الدنيا والآخرة ، وهو حبطه في الدنيا باستحقاق قتله وإلحاقه في الأحكام بالكفار ، وفي الآخرة بما يؤول إليه من العقاب السرمدي ، وقيل : حبوط أعمالهم في الدنيا هو عدم بلوغهم ما يريدون بالمسلمين من الإضرار بهم ومكايدتهم ، فلا يحصلون من ذلك على شيء ؛ لأن الله قد أعز دينه بأنصاره .

وظاهر هذا الشرط والجزاء ترتب حبوط العمل على الموافاة على الكفر ، لا على مجرد الارتداد ، وهذا مذهب جماعة من العلماء ، منهم الشافعي ، وقد جاء ترتب حبوط العمل على مجرد الكفر في قوله : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) ، ( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) ، ( والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم ) ، ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) ، والخطاب في المعنى لأمته ، وإلى هذا ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، وغيرهما ، يعني : أنه يحبط عمله بنفس الردة . دون الموافاة عليها ، وإن راجع الإسلام ، وثمرة الخلاف تظهر في المسلم إذا حج ، ثم ارتد ، ثم أسلم ، فقال مالك : يلزمه الحج ، وقال الشافعي : لا يلزمه الحج . ويقول الشافعي : اجتمع مطلق ومقيد ، فتقيد المطلق ، ويقول غيره : هما شرطان ترتب عليهما شيئان ، أحد الشرطين : الارتداد ، ترتب عليه حبوط العمل ، الشرط الثاني : الموافاة على الكفر ، ترتب عليها الخلود في النار . والجملة من قوله " وهو كافر " في موضع الحال من الضمير المستكن في " فيمت " وكأنها حال مؤكدة ؛ لأنه لو استغني عنها فهم معناها ؛ لأن ما قبلها يشعر بالتعقيب للارتداد . وكون الحال جاء جملة فيها مبالغة في التأكيد ؛ إذ تكرر الضمير فيها مرتين ، بخلاف المفرد ، فإنه فيه ضمير واحد . وتعرض المفسرون هنا لحكم المرتد ، ولم تتعرض الآية إلا لحبوط العمل ، وقد ذكرنا الخلاف فيه [ ص: 151 ] هل يشترط فيه الموافاة على الكفر أم يحبط بمجرد الردة ؟ وأما حكمه بالنسبة إلى القتل ، فذهب النخعي والثوري إلى أنه يستتاب محبوسا أبدا ، وذهب طاوس ، وعبيد بن عمير ، والحسن على خلاف عنه ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، والشافعي في أحد قوليه ، إلى أنه يقتل من غير استتابة ، وروي نحو هذا عن أبي موسى ، ومعاذ ، وقال جماعة من أهل العلم : يستتاب ، وهل يستتاب في الوقت ، أو في ساعة واحدة ، أو شهر ، روي هذا عن علي . أو ثلاثة أيام ، وروي عن عمر ، وعثمان ، وهو قول مالك فيما رواه ابن القاسم ، وقول أحمد ، وإسحاق ، والشافعي في أحد قوليه ، وأصحاب الرأي . أو مائة مرة ، وهو قول الحسن .

وقال عطاء : إن كان ابن مسلمين قتل دون استتابة ، وإن كان أسلم ثم ارتد أستتيب . وقال الزهري : يدعى إلى الإسلام ، فإن تاب وإلا قتل . وقال أبو حنيفة : يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم وإلا قتل مكانه ، إلا أن يطلب أن يؤجل ، فيؤجل ثلاثة أيام . والمشهور عنه وعن أصحابه أنه لا يقتل حتى يستتاب . والزنديق عندهم والمرتد سواء . وقال مالك : تقتل الزنادقة من غير استتابة ، ولو ارتد ثم راجع ثم ارتد ، فحكمه في الردة الثانية أو الثالثة أو الرابعة كالأولى ، وإذا راجع في الرابعة ضرب وخلي سبيله ، وقيل : يحبس حتى يرى أثر التوبة والإخلاص عليه ، ولو انتقل الكافر من كفر إلى كفر ، فالجمهور على أنه لا يقتل . وذكر المزني ، والربيع ، عن الشافعي : أن المبدل لدينه من أهل الذمة يلحقه الإمام بأرض الحرب ، ويخرجه من بلده ، ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار ، هذا حكم الرجل . وأما المرأة إذا ارتدت فقال مالك ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي : تقتل كالرجل سواء ، وقال عطاء ، والحسن ، والثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وابن شبرمة ، وابن عطية : لا تقتل . وروي ذلك عن علي وابن عباس . وأما ميراثه ؛ فأجمعوا على أن أقرباءه من الكفار لا يرثونه إلا ما نقل عن قتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، أنهم يرثونه ، وقد روي عن عمر خلاف هذا ، وقال علي ، والحسن ، والشعبي ، والحكم ، والليث ، وأبو حنيفة في أحد قوليه ، وابن راهويه : يرثه أقرباؤه المسلمون . وقال مالك ، وربيعة ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وأبو ثور : ميراثه في بيت المال ، وقال ابن شبرمة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والأوزاعي في إحدى الروايتين : ما اكتسبه بعد الردة لورثته المسلمين . وقال أبو حنيفة ، ما اكتسبه في حالة الإسلام قبل الردة لورثته المسلمين .

وقرأ الحسن : " حبطت " بفتح الباء ، وهما لغتان ، وكذا قرأها أبو السماك في جميع القرآن ، وقوله : ( فأولئك حبطت أعمالهم ) ، أتى باسم الإشارة وهو يدل على من اتصف بالأوصاف السابقة ، وأتى به مجموعا حملا على معنى " من " ؛ لأنه أولا حمل على اللفظ في قوله : يرتدد فيمت وهو كافر ، وإذا جمعت بين الحملين ، فالأصح أن تبدأ بالحمل على اللفظ ، ثم بالحمل على المعنى . وعلى هذا الأفصح جاءت هذه الآية . و " في الدنيا " متعلق بقوله : " حبطت " .

التالي السابق


الخدمات العلمية