الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( شهر رمضان ) قرأ الجمهور برفع " شهر " ، وقرأه بالنصب مجاهد ، وشهر بن حوشب وهارون الأعور ، عن أبي عمرو ، وأبو عمارة ، عن حفص عن عاصم . وإعراب " شهر " يتبين على المراد بقوله : ( أياما معدودات ) ، فإن كان المراد بها غير أيام رمضان فيكون رفع " شهر " على أنه مبتدأ ، وخبره قوله : ( الذي أنزل فيه القرآن ) ، ويكون ذكر هذه الجملة تقدمة لفرضية صومه بذكر فضيلته ، والتنبيه على أن هذا الشهر هو الذي أنزل فيه القرآن ، هو الذي يفرض عليكم صومه ، وجوزوا أن يكون الذي أنزل ، صفة ، إما للشهر فيكون مرفوعا ، وإما لرمضان فيكون مجرورا . وخبر المبتدأ والجملة بعده صفة من قوله : ( فمن شهد منكم الشهر ) ، وتكون الفاء في - فمن - زائدة على مذهب أبي الحسن ، ولا تكون هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان منها للشرط : لأن " شهر رمضان " لا يشبه الشرط ، قالوا : ويجوز أن لا تكون الفاء زائدة ، بل دخلت هنا كما دخلت في خبر الذي ، ومثله : ( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ) ، وهذا الذي قالوه ليس بشيء : لأن الذي صفة لعلم ، أو لمضاف لعلم ، فليس يتخيل فيه شيء ما من العموم ، ولمعنى الفعل الذي هو ( أنزل فيه القرآن ) لفظا ومعنى ، فليس كقوله : ( قل إن الموت الذي تفرون منه ) : لأن الموت هنا ليس معينا ، بل فيه عموم . وصلة الذي مستقبلة ، وهي - تفرون - وعلى القول بأن الجملة من قوله : ( فمن شهد ) هي الخبر ، يكون العائد على المبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه ، أي : فمن شهده منكم فليصمه ، فأقام لفظ المبتدأ مقام الضمير ، وحصل به الربط كما في قوله :


لا أرى الموت يسبق الموت شيء



وذلك لتفخيمه وتعظيمه ، وإن كان المراد بقوله : ( أياما معدودات ) أيام رمضان ، فجوزوا في إعراب " شهر " وجهين . ( أحدهما ) : أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره هو شهر رمضان ، أي : المكتوب شهر [ ص: 39 ] رمضان ، قاله الأخفش ، وقدره الفراء : " ذلكم شهر " وهو قريب .

الثاني : أن يكون بدلا من قوله " الصيام " أي : كتب عليكم شهر رمضان ، قاله الكسائي ، وفيه بعد لوجهين : أحدهما : كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه ، والثاني : أنه لا يكون إذ ذاك إلا من بدل الاشتمال ، لا وهو عكس بدل الاشتمال : لأن بدل الاشتمال في الغالب يكون بالمصادر كقوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) ، وقول الأعشى :


لقد كان في حول ثواء ثويته     تقضى لبانات ويسأم سائم



وهذا الذي ذكره الكسائي بالعكس ، فلو كان هذا التركيب : كتب عليكم شهر رمضان صيامه ، لكان البدل إذ ذاك صحيحا وعكس ، ويمكن توجيه قول الكسائي على أن يكون على حذف مضاف ، فيكون من بدل الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة ، تقديره : صيام شهر رمضان ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، لكن في ذلك مجاز الحذف والفصل الكثير بالجمل الكثيرة وهو بعيد ، ويجوز على بعد أن يكون بدلا من " أيام معدودات " ، على قراءة عبد الله ، فإنه قرأ : " أيام معدودات " بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : المكتوب صومه أيام معدودات . ذكر هذه القراءة أبو عبد الله الحسين بن خالويه في كتاب ( البديع ) له في القرآن : وانتصاب " شهر رمضان " على قراءة من قرأ ذلك على إضمار فعل تقديره : صوموا شهر رمضان ، وجوزوا فيه أن يكون بدلا من قوله : ( أياما معدودات ) . قاله الأخفش ، والرماني وفيه بعد لكثرة الفصل ، وأن يكون منصوبا على الإغراء تقديره الزموا شهر رمضان ، قاله أبو عبيدة والحوفي ، ورد بأنه لم يتقدم للشهر ذكر ، وإن كان منصوبا بقوله : ( وأن تصوموا ) : حكاه ابن عطية وجوزه الزمخشري قال : وقرئ بالنصب على : صوموا شهر رمضان ، أو على الإبدال من : ( أياما معدودات ) ، أو على أنه مفعول " وأن تصوموا " ، انتهى كلامه : وهذا لا يجوز : لأن " تصوموا " صلة لأن ، وقد فصلت بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو " خير " : لأن تصوموا في موضع مبتدأ ، أي : وصيامكم خير لكم ، ولو قلت : أن يضرب زيدا شديد جاز ، وأن تضرب شديد زيدا ، لم يجز .

وأدغمت فرقة شهر رمضان . قال ابن عطية : وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه ، يعني بالأصول أصول ما قرره أكثر البصريين : لأن ما قبل الراء في " شهر " حرف صحيح ، فلو كان في حرف علة لجاز بإجماع منهم ، نحو : هذا ثوب بكر : لأن فيه لكونه حرف علة مدا ما ، ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين ، ولا على ما اختاروه ، بل إذا صح النقل وجب المصير إليه .

( الذي أنزل فيه القرآن ) : تقدم إعرابه ، وظاهره أنه ظرف لإنزال القرآن ، والقرآن يعم الجميع ظاهرا ، ولم يبين محل الإنزال ، فعن ابن عباس أنه أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ليلة أربع وعشرين من رمضان ، ثم أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منجما . وقيل : الإنزال هنا هو على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون القرآن مما عبر بكله عن بعضه ، والمعنى : بدئ بإنزاله فيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك في الرابع والعشرين من رمضان . أو تكون الألف واللام فيه لتعريف الماهية ، كما تقول : أكلت اللحم ، لا تريد استغراق الأفراد ، إنما تريد تعريف الماهية . وقيل معنى : ( أنزل فيه القرآن ) أن جبريل كان يعارض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان بما أنزل الله عليه ، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء ، قاله الشعبي : فيكون الإنزال عبر به عن المعارضة .

وقيل : أنزل في فرضية صومه القرآن ، وفي شأنه القرآن ، كما تقول : أنزل في عائشة قرآن . والقرآن الذي نزل هو قوله : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) . قاله مجاهد ، والضحاك . وقال سفيان بن عيينة : في فضله ، وقيل : المعنى ( أنزل فيه القرآن ) أي : أنزل من اللوح المحفوظ إلى السفرة في سماء الدنيا في ليلة القدر من عشرين شهرا ، أو نزل به جبريل في عشرين سنة ، قاله مقاتل . وروى واثلة بن الأسقع [ ص: 40 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان ، والتوراة لست مضين منه ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين " . وفي رواية أبي ذر : " نزلت صحف إبراهيم في ثلاث مضين من رمضان ، وإنجيل عيسى في ثمانية عشر " ، والجمع بين الروايتين بأن رواية واثلة أخبر فيها عن ابتداء نزول الصحف والإنجيل ، ورواية أبي ذر أخبر فيها عن انتهاء النزول . وقرأ ابن كثير " القران " بنقل حركة الهمزة إلى الراء ، وحذف الهمزة ، وذلك في جميع القرآن سواء نكر أم عرف بالألف واللام ، أو بالإضافة ، وهذا المختار من توجيه قراءته ، وقد تقدم قول من قال : إن النون فيه مع عدم الهمز أصلية من قرنت الشيء في الشيء ضممته .

التالي السابق


الخدمات العلمية