الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) ظاهر : ما العموم ، والمعنى : أن الحالتين من الإخفاء والإبداء بالنسبة إليه تعالى سواء ، وإنما يتصف بكونه إبداء وإخفاء بالنسبة إلى المخلوقين لا إليه تعالى ؛ لأن علمه ليس ناشئا عن وجود الأشياء ، بل هو سابق بعلم الأشياء قبل الإيجاد ، وبعد الإيجاد ، وبعد الإعدام ، بخلاف علم المخلوق ، فإنه لا يعلم الشيء إلا بعد إيجاده ، فعلمه محدث ، وقد خصص هذا العموم ، فقال ابن عباس ، وعكرمة ، والشعبي ، واختاره ابن جرير : هو في معنى الشهادة أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب ، وقيل : من الاحتيال للربا ، وقال مجاهد : من الشك واليقين ، ومما يدل على أن الله تعالى يؤاخذ [ ص: 360 ] بما تجن القلوب ، قوله : ( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) .

وبعد فإن المحبة والإرادة والعلم والجهل أفعال القلب وهي من أعظم أفعال العباد ، وقال القاضي عبد الجبار : بين أن أفعال القلوب كأفعال الجوارح في أن الوعيد يتناولها ، ويعني ما يلزم إظهاره إذا خفي ، وما يلزم كتمانه إذا ظهر مما يتعلق به الحقوق ، ولم يرد بذلك ما يخطر بالقلب مما قد رفع فيه المأثم ، انتهى كلامه . وإلى ما يهجس في النفس أشار ، والله أعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ولم تعمل به وتكلم " وقال : إن تظهروا العمل أو تسروه .

وقال أبو علي : يحاسب عباده على ما يخفون من أعمالهم وعلى ما يبدونه ، فيغفر للمستحق ويعذب المستحق ، ودلت على أن الثواب والعقاب يستحقان بالعزم وسائر أفعال القلوب إذا كانت طاعة أو معصية .

وقال الزمخشري : من السوء وهذا حسن لأنه جاء بعد ذلك ذكر الغفران والتعذيب ، لكن ذيل ذلك الزمخشري بقوله : ( فيغفر لمن يشاء ) لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمر ، ( ويعذب من يشاء ) من استوجب العقوبة بالإصرار ، انتهى ، وهذه نزعة اعتزالية ، وأهل السنة يقولون : إن الغفران قد يكون من الله تعالى لمن مات مصرا على المعصية ولم يتب ، فهو في المشيئة ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) .

ثم قال الزمخشري : ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان الوسواس ، وحديث النفس ؛ لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ، ولكن ما اعتقده وعزم عليه ، وعن عبد الله بن عمر ، أنه تلاها فقال : لئن أخذنا الله بهذا لنهلكن ، ثم بكى حتى سمع نشجه ، فذكر لابن عباس فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد ، فنزل : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) انتهى كلامه ، وقال ابن عطية : في أنفسكم ، يقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحب الفكر فيه ، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز ، انتهى .

وقال بعضهم : إن هذه الآية منسوخة بقوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) وينبغي أن يجعل هذا تخصيصا إذا قلنا : إن الوسوسة والهواجس مندرجة تحت ما في قوله : ( ما في أنفسكم ) والأصح أنها محكمة ، وأنه تعالى يحاسبهم على ما عملوا وما لم يعملوا مما ثبت في نفوسهم ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، وقيل : العذاب الذي يكون جزاء للخواطر هو مصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها ، وروي هذا المعنى عن عائشة ، ولما كان اللفظ مما يمكن أن يدخل فيه الخواطر ، أشفق الصحابة ، فبين الله ما أراد بها وخصصها ، ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، والخواطر ليس دفعها في الوسع ، وكان في هذا فرجهم وكشف كربهم .

والآية خبر ، والنسخ لا يدخل الأخبار ، وانجزم ( يحاسبكم ) على أنه جواب الشرط ، وقيل : عبر عن العلم بالمحاسبة إذ من جملة تفاسير الحسيب : العالم ، فالمعنى : أنه يعلم ما في السرائر والضمائر ، وقيل : الجزاء مشروط بالمشيئة أو بعدم المحاسبة ، ويكون التقدير : يحاسبكم إن شاء أو يحاسبكم إن لم يسمح .

وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، ويزيد ، ويعقوب ، وسهل : ( فيغفر لمن يشاء ويعذب ) بالرفع فيهما على القطع ، ويجوز على وجهين : أحدهما : أن يجعل الفعل خبر مبتدأ محذوف ، والآخر : أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدم وقرأ باقي السبعة بالجزم عطفا على الجواب ، وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وأبو حيوة بالنصب فيهما على إضمار : إن ، فينسبك منها مع ما بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم من الحساب ، تقديره : يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب ، وهذه الأوجه قد جاءت في قول الشاعر :


فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام



[ ص: 361 ]

ونأخذ بعده بذناب عيش     أجب الظهر ليس له سنام



يروى بجزم : ونأخذ ، ورفعه ونصبه وقرأ الجعفي ، وخلاد ، وطلحة بن مصرف : ( يغفر لمن يشاء ) ويروى أنها كذلك في مصحف عبد الله ، قال ابن جني : هي على البدل من ( يحاسبكم ) فهي تفسير للمحاسبة ، انتهى . وليس بتفسير ، بل هما مترتبان على المحاسبة ، ومثال الجزم على البدل من الجزاء قوله : ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب ) .

وقال الزمخشري : ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ؛ لأن التفصيل أوضح من المفصل ، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل ، أو بدل الاشتمال ، كقولك : ضربت زيدا رأسه ، وأحب زيدا عقله ، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان ، انتهى كلامه ، وفيه بعض مناقشة ، أما أولا : فلقوله : ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ، وليس الغفران والعذاب تفصيلا لجملة الحساب ؛ لأن الحساب إنما هو تعداد حسناته وسيئاته وحصرها ، بحيث لا يشذ شيء منها ، والغفران والعذاب مترتبان على المحاسبة ، فليست المحاسبة تفصل الغفران والعذاب .

وأما ثانيا : فلقوله بعد أن ذكر بدل البعض والكل وبدل الاشتمال : هذا البدل وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان ، أما بدل الاشتمال فهو يمكن ، وقد جاء ؛ لأن الفعل بما هو يدل على الجنس يكون تحته أنواع يشتمل عليها ، ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس ، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل ، إذ الفعل لا يقبل التجزي ، فلا يقال في الفعل : له كل وبعض إلا بمجاز بعيد ، فليس كالاسم في ذلك ، ولذلك يستحيل وجود بدل البعض من الكل بالنسبة لله تعالى ؛ إذ الباري تعالى واحد فلا ينقسم ولا يتبعض .

قال الزمخشري ، وقد ذكر قراءة الجزم : فإن قلت : كيف يقرأ الجازم ؟ قلت : يظهر الراء ويدغم الباء ، ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا ، وراويه عن أبي عمرو مخطئ مرتين ؛ لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم ، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة ، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو ، انتهى كلامه . وذلك على عادته في الطعن على القراء ، وأما ما ذكر أن [ ص: 362 ] مدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا إلى آخره ، فهذه مسألة اختلف فيها النحويون ، فذهب الخليل ، وسيبويه وأصحابه : إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل التكرير الذي فيها ، ولا في النون . قال أبو سعيد : ولا نعلم أحدا خالفه إلا يعقوب الحضرمي ، وإلا ما روي عن أبي عمرو ، وأنه كان يدغم الراء في اللام ، متحركة متحركا ما قبلها ، نحو : ( يغفر لمن ) ( العمر لكي لا ) ، ( واستغفر لهم الرسول ) فإن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في موضع الضم والكسر ، نحو ( الأنهار لهم ) و ( النار ليجزي ) فإن انفتحت وكان ما قبلها حرف مد ولين أو غيره لم يدغم نحو ( من مصر لامرأته ) و ( الأبرار لفي نعيم ) و ( لن تبور ليوفيهم ) و ( الحمير لتركبوها ) فإن سكنت الراء أدغمها في اللام بلا خلاف عنه إلا ما روى أحمد بن جبير بلا خلاف عنه ، عن اليزيدي ، عنه : أنه أظهرها ، وذلك إذا قرأ بإظهار المثلين ، والمتقاربين المتحركين لا غير ، على أن المعمول في مذهبه بالوجهين جميعا على الإدغام نحو : ( ويغفر لكم ) انتهى ، وأجاز ذلك الكسائي والفراء وحكياه سماعا ، ووافقهما على سماعه رواية وإجازة أبو جعفر الرواسي ، وهو إمام من أئمة اللغة والعربية من الكوفيين ، وقد وافقهم أبو عمرو على الإدغام رواية وإجازة ، كما ذكرناه ، وتابعه يعقوب كما ذكرناه ، وذلك من رواية الوليد بن حسان ، والإدغام وجه من القياس ، ذكرناه في كتاب ( التكميل لشرح التسهيل ) من تأليفنا ، وقد اعتمد بعض أصحابنا على أن ما روي عن القراء من الإدغام الذي منعه البصريون يكون ذلك إخفاء لا إدغاما ، وذلك لا يجوز أن يعتقد في القراء أنهم غلطوا ، وما ضبطوا ، ولا فرقوا بين الإخفاء والإدغام ، وعقد هذا الرجل بابا قال : هذا باب يذكر فيه ما أدغمت القراء مما ذكر أنه لا يجوز إدغامه ، وهذا لا ينبغي ، فإن لسان العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط ، والقراءات لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه ، بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون [ ص: 363 ] مثل قراء البصرة ، وقد اتفق على نقل إدغام الراء في اللام كبير البصريين ورأسهم : أبو عمرو بن العلاء ، ويعقوب الحضرمي ، وكبراء أهل الكوفة : الرواسي ، والكسائي ، والفراء ، وأجازوه ورووه عن العرب ، فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم ؛ إذ من علم حجة على من لم يعلم .

وأما قول الزمخشري : إن راوي ذلك عن أبي عمرو مخطئ مرتين ، فقد تبين أن ذلك صواب ، والذي روى ذلك عنه الرواة ، ومنهم : أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو ، إمام في القراءات ، إمام في اللغات .

قال النقاش : يغفر لمن ينزع عنه ، ويعذب من يشاء إن أقام عليه . وقال الثوري : يغفر لمن يشاء العظيم ، ويعذب من يشاء على الصغير .

وقد تعلق قوم بهذه الآية في جواز تكليف ما لا يطاق ، وقالوا : كلفوا أمر الخواطر ، وذلك مما لا يطاق ، قال ابن عطية : وهذا غير بين ، وإنما كان من الخواطر تأويلا تأوله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت تكليفا .

( والله على كل شيء قدير ) لما ذكر المغفرة والتعذيب لمن يشاء ، عقب ذلك بذكر القدرة ، إذ ما ذكر جزء من متعلقات القدرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية