سورة القدر مكية وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
( إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر ) .
[ ص: 496 ] هذه السورة مدنية في قول الأكثر ، وحكى الماوردي عكسه ، وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة ، وفي الحديث : ( أن أربعة عبدوا الله تعالى ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين : أيوب وزكريا وحزقيل ويوشع ) فعجب الصحابة من ذلك ، فقرأ : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) السورة ، فسروا بذلك ، ومناسبتها لما قبلها ظاهر ، لما قال : ( اقرأ باسم ربك ) فكأنه قال : اقرأ ما أنزلناه عليك من كلامنا ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) والضمير عائد على ما دل عليه المعنى ، وهو ضمير القرآن .
قال وغيره : أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة ، ثم نجمه على ابن عباس محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة ، وقال وغيره : إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر ، وروي أن نزول الملك في الشعبي حراء كان في العشر الأواخر من رمضان ، وقيل المعنى : إنا أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفضلها ، ولما كانت السورة من القرآن ، جاء الضمير للقرآن تفخيما وتحسينا ، فليست ليلة القدر ظرفا للنزول ، بل على نحو قول عمر رضي الله تعالى عنه : لقد خشيت أن ينزل في قرآن . وقول عائشة : لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن . وقال : عظم من القرآن من إسناد إنزاله إلي مختصا به ، ومن مجيئه بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه ، وبالرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه . انتهى ، وفيه بعض تلخيص ، وسميت ليلة القدر ؛ لأنه تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها وتدفع إلى الملائكة لتمتثله ، قاله الزمخشري ابن عباس وقتادة وغيرهما ، وقال : معناه ليلة القدر العظيم والشرف ، وعظم الشأن من قولك : رجل له قدر ، وقال الزهري أبو بكر الوراق : سميت بذلك ؛ لأنها تكسب من أحياها قدرا عظيما لم يكن له قبل ، وترده عظيما عند الله تعالى ، وقيل : سميت بذلك ؛ لأن كل العمل فيها له قدر وخطر ، وقيل : لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر ، على رسول ذي قدر ، لأمة ذات قدر ، وقيل : لأنه ينزل فيها ملائكة ذات قدر وخطر ، وقيل : لأنه قدر فيها الرحمة على المؤمنين ، وقال الخليل : لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة ، كقوله : ( ومن قدر عليه رزقه ) أي ضيق ، وقد اختلف السلف والخلف في اختلافا متعارضا جدا ، وبعضهم قال : رفعت ، والذي يدل عليه الحديث أنها لم ترفع ، وأن العشر الأخير تكون فيه ، وأنها في أوتاره ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( تعيين وقتها ) . وفي الصحيح : ( التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة ) . من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه
( وما أدراك ما ليلة القدر ) تفخيم لشأنها ، أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها ، ثم بين له ذلك ، قال : ما كان في القرآن ( سفيان بن عيينة وما أدراك ) فقد أعلمه ، وما قال : وما يدريك ، فإنه لم يعلمه ، قيل : وأخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها ، والظاهر أن ( ألف شهر ) يراد به حقيقة العدد ، وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام ، والحسن : في ليلة القدر أفضل من العمل في هذه الشهور ، والمراد : ( خير من ألف شهر ) عار من ليلة القدر ، وعلى هذا أكثر المفسرين ، وقال أبو العالية : خير من ألف شهر رمضان لا يكون فيها ليلة القدر . وقيل : المعنى خير من الدهر كله ، لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء كلها ، قال تعالى : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) يعني جميع الدهر . وعوتب الحسن بن علي على تسليمه الأمر لمعاوية فقال : إن الله تعالى أرى في المنام نبيه صلى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على مقبره نزو القردة ، فاهتم لذلك ، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر ، وهي خير من مدة ملوك بني أمية ، وأعلمه أنهم يملكون هذا القدر من الزمان ، قال القاسم بن الفضل الجذامي : فعددنا ذلك فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص يوما ، وخرج قريبا من معناه الترمذي [ ص: 497 ] وقال : حديث غريب . انتهى . وقيل : آخر ملوكهم في آخر هذا القدر من الزمان ، ولا يعارض هذا تملك مروان الجعدي بني أمية في جزيرة الأندلس مدة غير هذه ؛ لأنهم كانوا في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب ، بحيث كان في إقليم العرب إذ ذاك ملوك كثيرون غيرهم ، وذكر أيضا في تخصيص هذه المدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون من ذلك وتقاصرت أعمالهم ، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي ، وقيل : إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر ، فأعطوا ليلة ، إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد ، وقال أبو بكر الوراق : ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة سنة ، فصار ألف شهر ، فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما .
( تنزل الملائكة والروح ) تقدم الخلاف في الروح ، أهو جبريل ، أم رحمة ينزل بها ، أم ملك غيره ، أم أشرف الملائكة ، أم جند من غيرهم ، أم حفظة على غيرهم من الملائكة ؟ والتنزل إما إلى الأرض ، وإما إلى سماء الدنيا ( بإذن ربهم ) متعلق بتنزل ( من كل أمر ) متعلق بتنزل ومن للسبب ، أي تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل ( وسلام ) مستأنف ، خبر للمبتدأ الذي هو هي ، أي هي سلام إلى أول يومها ، قاله أبو العالية ونافع المقري ، وهذا على قول من قال : إن تنزلهم لتقدير الأمور لهم . وقال والفراء أبو حاتم : من بمعنى الباء ، أي بكل أمر ، وابن عباس وعكرمة والكلبي : ( من كل امرئ ) ، أي من أجل كل إنسان ، وقيل : يراد بكل امرئ الملائكة ، أي من كل ملك تحية على المؤمنين العاملين بالعبادة ، وأنكر هذا القول أبو حاتم ( سلام هي ) أي هي سلام ، جعلها سلاما لكثرة السلام فيها ، قيل : لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة ، وقال منصور : سلام بمعنى التحية ، أي تسلم الملائكة على المؤمنين . ومن قال : تنزلهم ليس لتقدير الأمور في تلك السنة ، جعل الكلام تاما عند قوله : ( بإذن ربهم ) . وقال : ( من كل أمر ) متعلق بقوله : ( والشعبي سلام هي ) أي من كل أمر مخوف ينبغي أن يسلم منه هي سلام ، وقال مجاهد : لا يصيب أحدا فيها داء ، وقال صاحب اللوامح : وقيل معناه هي سلام من كل أمر ، وأمري سالمة أو مسلمة منه ، ولا يجوز أن يكون سلام بهذه اللفظة الظاهرة التي هي المصدر عاملا فيما قبله لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر . كما أن الصلة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول . انتهى .
وعن : تم الكلام عند قوله : ( سلام ) ، ولفظة ( هي ) إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر ، إذ هذه الكلمة ( هي ) السابعة والعشرون من كلمات هذه السورة . انتهى . ولا يصح مثل هذا عن ابن عباس ، وإنما هذا من باب اللغز المنزه عنه كلام الله تعالى ، وقرأ الجمهور : ( مطلع ) بفتح اللام ، ابن عباس وأبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو : بخلاف عنه بكسرها ، فقيل : هما مصدران في لغة بني تميم ، وقيل : المصدر بالفتح ، وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز .