الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) ، قيل المراد " بمن " غير معين ، بل هي في كل من باع نفسه لله تعالى في جهاد ، أو صبر على دين ، أو كلمة حق عند جائر ، أو حمية لله ، أو ذب عن شرعه ، أو ما أشبه هذا . وقيل : هي في معين ، فقيل : في الزبير والمقداد بعثهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ليحطا خبيبا من خشبته ، وقيل : في صهيب الرومي خرج مهاجرا فلحقته قريش ، فنثل كنانته ، وكان جيد الرمي شديد البأس محذوره ، وقالوا : لا نتركك حتى تدلنا على مالك ، فدلهم على موضعه ، فرجعوا عنه ، وقيل : عذب ليترك دينه فافتدى من ماله وخرج مهاجرا ، وقيل : في علي حين خلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع وأمره بمبيته على فراشه ليلة خرج مهاجرا - صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول : قل لا إله إلا الله ، فلا يقول ، فيقول : والله لأشرين ، فيقاتل حتى يقتل . وقال ابن عباس : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيل : في صهيب ، وأبي ذر ، وكان أبو ذر قد أخذه أهله فانقلب ، فخرج مهاجرا . وقيل : في المهاجرين والأنصار ، وذكر المفسرون غير هذا ، وقصصا طويلا في أخبار هؤلاء المعينين الذين قيل نزلت فيهم الآية . والذي ينبغي أن يقال إنه تعالى لما ذكر ( ومن الناس من يعجبك قوله ) ، وكان عاما في المنافق الذي يبدي خلاف ما أضمر ، ناسب أن يذكر قسيمه عاما من يبذل نفسه في طاعة الله تعالى من أي صعب كان ، فكذلك المنافق مدار عن نفسه بالكذب والرياء ، وحلاوة المنطق ، وهذا باذل نفسه لله ولمرضاته . وتندرج تلك الأقاويل التي في الآيتين تحت عموم هاتين الآيتين ، ويكون ذكر ما ذكر من تعيين من عين إنما هو على نحو من ضرب المثال ، ولا يبعد أن يكون السبب خاصا ، والمراد عموم اللفظ ، ولما طال الفصل هنا بين القسم الأول والقسم الثاني ، أتى في التقسيم الثاني بإظهار المقسم منه ، فقال : ( ومن الناس من يشري ) بخلاف قوله : ( ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة ) ، فإنه لما قرب ذكر أحد القسمين من المقسم ، أضمر في الثاني المقسم . ومعنى " يشري " : يبيع ، وهو سائغ في اللسان . قال تعالى : ( وشروه بثمن بخس دراهم ) قال الشاعر :

[ ص: 119 ]

وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه



ويشري : عبارة عن أن يبذل نفسه في الله ، ومنه تسمى الشراة ، وكأنهم باعوا أنفسهم من الله ، وقال قوم : شرى ، بمعنى : اشترى ، فإن كانت الآية في صهيب فهذا موجود فيه : حيث اشترى نفسه بماله ولم يبعها . وانتصاب " ابتغاء " على أنه مفعول من أجله ، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم ، إنما هو طلب رضى الله تعالى ، وهو مستوف لشروط المفعول من أجله من كونه مصدرا متحد الفاعل والوقت ، وهذه الإضافة ، أعني إضافة المفعول من أجله ، هي محضة ، خلافا للجرمي ، والرياشي ، والمبرد ، وبعض المتأخرين ، فإنهم يزعمون أنها إضافة غير محضة ، وهذا مذكور في كتب النحو .

و " مرضاة " : مصدر بني على التاء كمدعاة ، والقياس تجريده عنها ، كما تقول مرمى ومغزى ، وأمال الكسائي : " مرضاة " ، وعن ورش خلاف في إمالة " مرضاة " ، وقرأنا له بالوجهين ، ووقف حمزة عليها بالتاء ، ووقف الباقون بالهاء . فأما وقف حمزة بالتاء فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون على مذهب من يقف من العرب على طلحة ، وحمزة ، بالتاء ، كالوصل ، وهو كان القياس دون الإبدال . قال :


دار لسلمى بعد حول قد عفت     بل جوز تيهاء كظهر الحجفت



وقد حكى هذه اللغة سيبويه .

والوجه الآخر : أن تكون على نية الإضافة ، كأنه نوى تقدير المضاف إليه ، فأراد أن يعلم أن الكلمة مضافة ، وأن المضاف إليه مراد ، كإشمام من أشم الحرف المضموم في الوقف ليعلم أن الضمة مرادة ، وفي قوله : ( ابتغاء مرضاة الله ) ، إشارة إلى حصول أفضل ما عند الله للشهداء ، وهو رضاه تعالى . وفي الحديث الصحيح ، في مجاورة أهل الجنة ربهم تعالى ، حين يسألهم هل رضيتم ؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد أدخلتنا جنتك وباعدتنا من نارك ؟ فيقول : ولكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : يا ربنا ، وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده .

( والله رءوف بالعباد ) : حيث كلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الشهداء ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : ترجئة تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية ، كما في قوله : ( فحسبه جهنم ) ، تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم ، وتقدم أن الرأفة أبلغ من الرحمة .

والعباد إن كان عاما ، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى انقضاء آجالهم ، وتيسير أرزاقهم لهم ، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته ، ورفع درجاتهم في الجنة . وإن كان خاصا ، وهو الأظهر : لأنه لما ختم الآية بالوعيد من قوله : ( فحسبه جهنم ) ، وكان ذلك خاصا بأولئك الكفار ، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب وجزيل المآب ، ودل على ذلك بالرأفة التي هي سبب لذلك ، فصار ذلك كناية عن إحسان الله إليهم : لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان ، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لم يفد ما أفاده لفظ الرأفة ، ولذلك كانت الكناية أبلغ ، ويكون إذ ذاك في لفظ " العباد " التفاتا ، إذ هو خروج من ضمير غائب مفرد إلى اسم ظاهر ، فلو جرى على نظم الكلام السابق لكان : والله رءوف به أو بهم ، وحسن الالتفات هنا بهذا الاسم الظاهر شيئان ، أحدهما : أن لفظ " العباد " له في استعمال القرآن تشريف واختصاص ، كقوله : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) ، ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) ، ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) ، ( بل عباد مكرمون ) . والثاني : مجيء اللفظة فاصلة : لأن قبله : ( والله لا يحب الفساد ) ( فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) ، فناسب : ( والله رءوف بالعباد ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية