الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) . هذا القول تحريض من العازمين على القتال وحض عليه ، واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق الله . والمعنى : أنا لا نكترث ب جالوت وجنوده وإن كثروا ، فإن الكثرة ليست سببا للانتصار ، فكثيرا ما انتصر القليل على الكثير ; ولما كان قد سبق ذلك في الأزمان الماضية وعلموا بذلك ، أخبروا بصيغة : كم ، المقتضية للتكثير . وقرأ أبي : ( وكأين ) ، وهي مرادفة لكم في التكثير ، ولم يأت تمييزها في القرآن [ ص: 268 ] إلا مصحوبا بمن ، ولو حذفت ( من ) لانجر تمييز كم الخبرية بالإضافة ، وقيل : بإضمار ( من ) ويجوز نصبه حملا على كم الاستفهامية ، وانتصب تمييز كأين ، فتقول : كأين رجلا جاءك ، قال الشاعر :


أطرد اليأس بالرجا فكأين أملا حم يسره بعد عسر



و ( كم ) في موضع رفع على الابتداء ، و ( من ) في ( من فئة ) قيل : زائدة وليس من مواضع زيادتها . وقيل : في موضع الصفة لـ ( كم ) ، و ( فئة ) هنا مفرد في معنى الجمع ، كأنه قيل : كثير من فئات قليلة غلبت . وقرأ الأعشى فيه بإبدال الهمزة ياء ، نحو : ميرة في مئرة ، وهو إبدال نفيس ، وخبر ( كم ) قوله : ( غلبت ) ومعنى ( بإذن الله ) بتمكينه وتسويفه الغلبة . وفي هذه الآية دليل على جواز قتال الجمع القليل للجمع الكثير ، وإن كانوا أضعاف أضعافهم ، إذا علموا أن في ذلك نكاية لهم ، وأما جواز الفرار من الجمع الكثير إذا زادوا عن ضعفهم فسيأتي بيانه في سورة الأنفال ، إن شاء الله تعالى .

( والله مع الصابرين ) تحريض على الصبر في القتال ، فإن الله مع من صبر لنصرة دينه ، ينصره ويعينه ويؤيده ، ويحتمل أن يكون من تمام كلامهم ، ويحتمل أن يكون استئنافا من الله ، قاله القفال . ( ولما برزوا لجالوت وجنوده ) صاروا بالبراز من الأرض ، وهو ما ظهر واستوى ، والمبارزة في الحرب أن يظهر كل قرن لصاحبه بحيث يراه قرنه ، وكان جنود طالوت ثلاثمائة ألف فارس ، وقيل : مائة ألف ، وقال عكرمة : تسعين ألفا . ( قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا ) الصبر هنا : حبس النفس للقتال ، فزعوا إلى الدعاء لله تعالى فنادوا بلفظ الرب الدال على الإصلاح وعلى الملك ، ففي ذلك إشعار بالعبودية . وقولهم : ( أفرغ علينا صبرا ) سؤال بأن يصب عليهم الصبر حتى يكون مستعليا عليهم ، ويكون لهم كالظرف وهم كالمظروفين فيه .

( وثبت أقدامنا ) فلا تزل عن مداحض القتال ، وهو كناية عن تشجيع قلوبهم وتقويتها ، ولما سألوا ما يكون مستعليا عليهم من الصبر سألوا تثبيت أقدامهم وإرساخها . ( وانصرنا على القوم الكافرين ) أي : أعنا عليهم ، وجاءوا بالوصف المقتضي لخذلان أعدائهم ، وهو الكفر ، وكانوا يعبدون الأصنام ، وفي قولهم : ( ربنا ) إقرار لله تعالى بالوحدانية ، وإقرار له بالعبودية .

التالي السابق


الخدمات العلمية