الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) ، الظاهر أن " تعجل " هنا لازم لمقابلته بلازم في قوله : ( من تأخر ) ، فيكون مطاوعا لعجل ، فتعجل ، نحو كسره فتكسر ، ومتعلق التعجل محذوف ، التقدير : بالنفس ، ويجوز أن يكون تعجل متعديا ومفعوله محذوف أي : فمن تعجل النفر ، ومعنى : في يومين من الأيام المعدودات . وقالوا : المراد أنه ينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق ، وسبق كلامنا على تعليق " في يومين " بلفظ " تعجل " ، وظاهر قوله : " فمن تعجل " العموم ، فسواء في ذلك الآفاقي والمكي ، لكل منهما أن ينفر في اليوم الثاني ، وبهذا قال عطاء . قال ابن المنذر : وهو يشبه مذهب الشافعي ، وبه نقول ، انتهى كلامه . فتكون الرخصة لجميع الناس من أهل مكة وغيرهم . وقال مالك وغيره : ولم يبح التعجيل إلا لمن بعد قطره لا للمكي ولا للقريب ، إلا أن يكون له عذر . وروي عن عمر أنه قال : من شاء من الناس كلهم فلينفر في النفر الأول ، إلا آل خزيمة ، فإنهم لا ينفرون إلا في النفر الآخر ، وجعل أحمد ، وإسحاق قول عمر : إلا آل خزيمة ، أي أنهم أهل حرم ، وكان أحمد يقول : لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة .

وظاهر قوله : " في يومين " أن التعجل لا يكون بالليل ، بل في شيء من النهار ، ينفر إذا فرغ من رمي الجمار ، وهو مذهب الشافعي ، وهو مروي عن قتادة . وقال أبو حنيفة : قبل طلوع الفجر ، ويعني من اليوم الثالث ، وروي عن عمر ، وابن عامر ، وجابر بن زيد ، والحسن ، والنخعي أنهم قالوا : من أدركه العصر وهو بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغدو ، وهذا مخالف لظاهر القرآن : لأنه قال : " في يومين " ، وما بقي من اليومين شيء فسائغ له النفر فيه ، قال ابن المنذر : ويمكن أن يقولوا ذلك استحبابا . وظاهر قوله : " ومن تعجل " سقوط الرمي عنه في اليوم الثالث ، فلا يرمي جمرات اليوم الثالث في يوم نفره . وقال ابن أبي زمنين : يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل . قال ابن المواز : يرمي المتعجل في يومين إحدى وعشرين حصاة ، كل جمرة بسبع حصيات ، فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة ، يعني : لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر . قال ابن المواز : ويسقط رمي اليوم الثالث . وظاهر قوله ( واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل ) إلى آخره . مشروعية المبيت بمنى أيام التشريق : لأن التعجل والتأخر إنما هو في النفر من منى ، وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد من الحجاج أن يبيت إلا بها إلا للرعاء ، ومن ولي السقاية من آل العباس ، فمن ترك المبيت من غيرهما ليلة من ليالي منى ، فقال مالك ، وأبو حنيفة : عليه دم ، وقال الشافعي : من ترك المبيت في الثلاث الليالي ، فإن ترك مبيت ليلة واحدة فيلزمه ثلث دم ، أو مد أو درهم ، ثلاثة أقوال ، ولم تتعرض الآية للرمي لا حكما ، ولا وقتا ، ولا عددا ، ولا مكانا لشهرته عندهم . وتؤخذ أحكامه من السنة . وقيل : في قوله " واذكروا الله " تنبيه عليه ، إذ من سنته التكبير على كل حصاة منها ، فلا إثم عليه . وقرأ سالم بن عبد الله : " فلا إثم عليه " بوصل الألف ، ووجهه أنه سهل الهمزة بين بين ، فقربت بذلك من [ ص: 112 ] السكون فحذفها تشبيها بالألف ، ثم حذف الألف لسكونها وسكون التاء ، وهذا جواب الشرط إن جعلنا " من " شرطية ، وهو الظاهر ، وإن جعلناها موصولة كان ذلك في موضع الخبر ، وظاهره نفي الإثم عنه ، ففسر بأنه مغفور له ، وكذلك من تأخر مغفور له لا ذنب عليه ، روي هذا عن علي ، وأبي ذر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والشعبي ، ومطرف بن الشخير ، وقال معاوية بن قرة : خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وروي عن عمر ما يؤيد هذا القول ، وقال مجاهد : المعنى من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل . والذي يظهر أن المعنى : فلا إثم عليه في التعجيل ولا إثم عليه في التأخير : لأن الجزاء مرتب على الشرط ، والمعنى أنه لا حرج على من تعجل ولا على من تأخر ، وقاله عطاء ، وذلك أنه لما أمرهم تعالى بالذكر في أيام معلومات ، وهذه الأيام قد فسرت بما أقله جمع ، وهي : ثلاثة أيام ، أو بأربعة ، أو بالعشر ، ثم أبيح لهم النفر في ثاني أيام التشريق ، وكان يقتضي الأمر بالذكر في جميع هذه الأيام أن لا تعجيل ، فنفى بقوله " فلا إثم عليه " الحرج عن من خفف عنه المقام إلى اليوم الثالث ، فينفر فيه ، وسوى بينه في الإباحة وعدم الحرج ، وبين من تأخر ، فعم الأيام الثلاثة بالذكر ، وهذا التقسيم يدل على التخيير بين التعجيل والتأخر ، والتخيير قد يتبع بين الفاضل والأفضل ، فقيل : جاء " ومن تأخر فلا إثم عليه " : لأجل مقابلة " فمن تعجل فلا إثم عليه " ، فنفى الإثم عنه وإن كان أفضل لذلك ، وقيل : فلا إثم عليه في ترك الرخصة . وقيل : كان أهل الجاهلية فريقين : منهم من يؤثم المتعجل ، ومنهم من يؤثم المتأخر ، فجاء القرآن برفع الإثم عنهما ، وقيل : إنه عبر بذلك عن المغفرة ، كما روي عن علي ومن معه . وهذا أمر اشترك فيه المتعجل والمتأخر ، وقيل : المعنى : ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع عامة الناس فلا إثم عليه ، فكأنه قيل : أيام منى ثلاثة ، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخر فلا إثم عليه . وفي هاتين الجملتين الشرطيتين من علم البديع الطباق في قوله " فمن تعجل " ، " ومن تأخر " ، والطباق ذكر الشيء وضده ، كقوله : ( وأنه هو أضحك وأبكى ) ، وهو هنا طباق غريب : لأنه ذكر تعجل مطابق تأخر ، وفي الحقيقة مطابق تعجل تأنى ، ومطابق تأخر تقدم ، فعبر في تعجل بالملزوم عن اللازم ، وعبر في تأخر باللازم عن الملزوم . وفيها من علم البيان المقابلة اللفظية ، إذ المتأخر أتى بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر ، وإنما أتى بقوله " فلا إثم عليه " مقابلا لقوله " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " ، كقوله : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) ، وتقدمت الإشارة إلى هذا .

( لمن اتقى ) قيل : هو متعلق بقوله " واذكروا الله " ، أي الذكر لمن اتقى ، وقيل : بانتفاء الإثم ، أي : يغفر له بشرط اتقائه الله فيما بقي من عمره ، قاله أبو العالية ، وقيل : المعنى ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي ، لئلا يختلج في قلبه شيء منهما ، فيحسب أن أحدهما ترهق صاحبه آثام في الإقدام عليه : لأن ذا التقوى حذر متحرز من كل ما يريبه : ولأنه هو الحاج على الحقيقة ، قاله الزمخشري ، وقال أيضا : لا يجوز أن يراد ذلك الذي مر ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى : لأنه هو المنتفع به دون من سواه ، كقوله : ذلك خير للذين يريدون وجهه ، انتهى كلامه . و " اتقى " هنا حاصلة " لمن " . وهي بلفظ الماضي ، فقيل : هو ماضي المعنى أيضا ، أي : المغفرة لا تحصل إلا لمن كان متقيا منيبا قبل حجه ، نحو : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) ، وحقيقته أن المصر على الذنب لا ينفعه حجه وإن كان قد أدى الفرض في الظاهر ، وقيل : اتقى جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج ، قال قتادة ، وأبو صالح . وقال ابن عباس : لمن اتقى في الإحرام الرفث والفسوق والجدال ، وقال الماتريدي : لمن اتقى قتل الصيد في الإحرام . وقيل : يراد به المستقبل ، أي : لمن يتقي الله في باقي عمره كما قدمناه . والظاهر تعلقه بالآخر وهو انتفاء الإثم لقربه منه ، ولصحة المعنى أيضا ، إذ من لم يكن متقيا لم يرتفع الإثم عنه .

[ ص: 113 ] والظاهر أن مفعول اتقي المحذوف هو الله ، أي : لمن اتقى الله ، وكذا جاء مصرحا به في مصحف عبد الله .

( واتقوا الله ) ، لما ذكر تعالى رفع الإثم ، وأن ذلك يكون لمن اتقى الله ، أمر بالتقوى عموما ، ونبه على ما يحمل على اتقاء الله بالحشر إليه للمجازاة ، فيكون ذلك حاملا لهم على اتقاء الله : لأن من علم أنه يحاسب في الآخرة على ما اجترح في الدنيا اجتهد في أن يخلص من العذاب ، وأن يعظم له الثواب ، وإذا كان المأمور بالتقوى موصوفا بها ، كان ذلك الأمر أمرا بالدوام ، وفي ذكر الحشر تخويف من المعاصي ، وذكر الأمر بالعلم دليل على أنه لا يكفي في اعتقاد الحشر إلا الجزم الذي لا يجامعه شيء من الظن ، وقدم " إليه " للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ، ولتواخي الفواصل والمعنى إلى جزائه . وقد تكملت أحكام الحج المذكورة في هذه السورة من ذكر وقت الحج إلى آخر فعل ، وهو النفر ، وبدئت أولا بالأمر بالتقوى ، وختمت به ، وتخلل الأمر بها في غضون الآي ، وذلك ما يدل على تأكيد مطلوبيتها ، ولم لا تكون كذلك وهي اجتناب مناهي الله وإمساك مأموراته ، وهذا غاية الطاعة لله تعالى ، وبها يتميز الطائع من العاصي ؟ ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) ، نزلت في الأخنس بن شريق ، واسمه أبي ، وكان حلو اللسان والمنظر ، يجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويظهر حبه والإسلام ، ويحلف على ذلك ، فكان يدنيه ولا يعلم ما أضمر ، وكان من ثقيف حليفا لبني زهرة ، فجرى بينه وبين ثقيف شيء ، فبيتهم ليلا وأحرق زرعهم ، وأهلك مواشيهم ، قاله عطاء ، والكلبي ، ومقاتل . وقال السدي : فمر بزرع للمسلمين وحمر ، فأحرق الزرع ، وغفر الحمر ، قيل : وفيه نزلت ( ولا تطع كل حلاف مهين ) ، و ( ويل لكل همزة لمزة ) . وقال ابن عباس : في كفار قريش ، أرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنا قد أسلمنا ، فابعث إلينا من يعلمنا دينك ، وكان ذلك مكرا منهم ، فبعث إليهم خبيبا ومرثدا ، وعاصم بن ثابت ، وابن الدثنة ، وغيرهم ، وتسمى سرية الرجيع ، والرجيع موضع بين مكة والمدينة ، فقتلوا ، وحديثهم طويل مشهور في الصحاح . وقال قتادة ، وابن زيد : نزلت في كل منافق أظهر بلسانه ما ليس في قلبه . وروي عن ابن عباس : أنها في المنافقين ، قالوا عن سرية الرجيع : ويح هؤلاء ما قعدوا في بيوتهم ، ولا أدوا رسالة صاحبهم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما قسم السائلين الله قبل إلى مقتصر على أمر الدنيا ، وسائل حسنة الدنيا والآخرة ، والوقاية من النار ، أتى بذكر النوعين هنا ، فذكر من النوع الأول من هو حلو المنطق ، مظهر الود ، وليس ظاهره كباطنه ، وعطف عليه من يقصد رضى الله تعالى ، ويبيع نفسه في طلبه ، وقدم هنا الأول : لأنه هناك المقدم في قوله : فمنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا ، وأحال هنا على إعجاب قوله دون غيره ، من الأوصاف ، لأن القول هو الظاهر منه أولا في قوله تعالى : ( فمن الناس من يقول ربنا ) ، فكان من حيث توجهه إلى الله تعالى في الدعاء ، ينبغي أن يكون لا يقتصر على الدنيا ، وأن يسأل منه أن ينجيه من عذابه ، وكذلك هذا الثاني ينبغي أن لا يقتصر على حلاوة منطقه ، بل كان يطابق في سريرته لعلانيته . و " من " من قوله " من يعجبك " موصولة ، وقيل : نكرة موصوفة ، والكاف في " يعجبك " خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن كانت نزلت في معين ، كالأخنس أو غيره ، أو خطاب لمن كان مؤمنا إن كانت نزلت في غير معين ممن ينافق قديما أو حديثا . ومعنى إعجاب قوله استحسانه لموافقة ما أنت عليه من الإيمان والخير ، وجاء في الترمذي : " أن في بعض كتب الله : " إن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر " الحديث .

" في الحياة " متعلق بـ " قوله " ، أي يعجبك مقالته في معنى الدنيا : لأن ادعاءه المحبة والتبعية بالباطل يطلب به حظا من حظوظ الدنيا . ولا يريد به الآخرة ، إذ لا تراد الآخرة إلا بالإيمان الحقيقي ، والمحبة الصادقة ، وقال الزمخشري ، بعد أن ذكر [ ص: 114 ] هذا الوجه : ويجوز أن يتعلق بيعجبك أي : قوله حلو ، فيصح في الدنيا فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة ، لما ترهقه في الموقف من الحبسة واللكنة ، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام ، فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه ، انتهى . وفيه بعد . والذي يظهر أنه متعلق بـ " يعجبك " لا على المعنى الذي قاله ، والمعنى أنك تستحسن مقالته دائما في مدة حياته ، إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجب رائق لطيف ، فمقالته في الظاهر معجبة دائما . ألا تراه يعدل على تلك المقالة الحسنة الرائقة ، إلى مقالة خشنة منافية ، ومع ذلك أفعاله منافية لأقواله الظاهرة ، وأقواله الباطنة مخالفة أيضا لأقواله الظاهرة ؟ إذ لا يحمل قوله " يعجبك قوله " ، وقوله : ( وهو ألد الخصام ) ، إلا على حالتين : فهو حلو المقالة في الظاهر ، شديد الخصومة في الباطن .

( ويشهد الله على ما في قلبه ) ، قرأ الجمهور بضم الياء وكسر الهاء . ونصب الجلالة من " أشهد " ، وقرأ أبو حيوة ، وابن محيصن بفتح الياء والهاء ورفع الجلالة ، من شهد ، وقرأ أبي ، وابن مسعود " ويستشهد الله " ، والمعنى على قراءة الجمهور ، وتفسير الجمهور ، أنه يحلف بالله ويشهده أنه صادق وقائل حقا ، وأنه محب في الرسول والإسلام ، وقد جاءت الشهادة في معنى القسم في قصة الملاعنة في سورة النور ، قيل : ويكون اسم الله انتصب بسقوط حرف الجر ، والتقدير : ويقسم بالله على ما في قلبه ، وهذا سهو : لأن الذي يكون يقسم به هو الثلاثي لا الرباعي ، تقول : أشهد بالله لأفعلن ، ولا تقول : أشهد بالله . والظاهر عندي أن المعنى : أنه يطلع الله على ما في قلبه ، ولا يعلم به أحد لشدة تكتمه وإخفائه الكفر ، وهو ظاهر قوله : ( على ما في قلبه ) : لأن الذي في قلبه هو خلاف ما أظهر بقوله . وعلى تفسير الجمهور يحتاج إلى حذف " ما " ؛ يصح به المعنى ، أي : ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه : لأن الذي في قلبه هو الكفر ، وهو لا يحلف عليه ، إنما يحلف على ضده ، وهو الذي يعجب به . ويقوي هذا التأويل قراءة أبي حيوة ، وابن محيصن ، إذ معناها : ويطلع الله على ما في قلبه من الكفر الذي هو خلاف قوله . وقراءة : ويستشهد ، يجوز أن تكون فيها استفعل ، بمعنى أفعل ، نحو أيقن واستيقن ، فيوافق قراءة الجمهور ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون فيها استفعل بمعنى المجرد ، فيكون استشهد بمعنى شهد ، ويظهر إذ ذاك أن لفظ الجلالة منصوب على إسقاط حرف الجر ، أي ويستشهد بالله ، كما تقول : ويشهد بالله ، ولا بد من الحذف حتى يصح المعنى ، أي : ويستشهد بالله على خلاف ما في قلبه ، والظاهر أن قوله " ويشهد الله " معطوف على قوله " يعجبك " ، فهو صلة ، أو صفة . ويجوز أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف ، فتكون الجملة حالا من الفاعل المستكن في " يعجبك " ، أو من الضمير المجرور في " قوله " . التقدير : وهو يشهد الله ، فيكون ذلك قيدا في الإعجاب ، أو في القول ، والظاهر عدم التقييد ، وأنه صلة ، ولما يلزم في الحال من الإضمار للمبتدأ : لأن المضارع المثبت ومعه الواو يقع حالا بنفسه ، فاحتيج إلى إضمار كما احتاجوا إليه في قولهم : قمت وأصك عينه ، أي : وأنا أصك ، والإضمار على خلاف الأصل .

( وهو ألد الخصام ) أي : أشد المخاصمين ، فالخصام جمع خصم ، قاله الزجاج ، وإن أريد بالخصام المصدر ، كما قاله الخليل ، فلا بد من حذف مصحح لجريان الخبر على المبتدأ ، إما من المبتدأ ، أي : وخصامه ألد الخصام ، وإما من متعلق الخبر ، أي : وهو ألد ذوي الخصام ، وجوز أن يراد هنا بالخصام المصدر على معنى اسم الفاعل ، كما يوصف بالمصدر في رجل خصم ، وأن يكون أفعل لا للمفاضلة ، كأنه قيل : وهو شديد الخصومة ، وأن يكون هو ضمير الخصومة ، يفسره سياق الكلام ، أي : وخصامه أشد الخصام . وتقاربت أقاويل المفسرين في " ألد الخصام " . قال ابن عباس : معناه ذو الجدال ، وقال الحسن : الكاذب المبطل ، وقال قتادة : شديد القسوة في معصية الله ، وقال السدي : أعوج الخصومة . وقال مجاهد : لا يستقيم على حق في الخصومة . والظاهر أن هذه الجملة الابتدائية معطوفة على صلة " من " ، فهي صلة ، وجوزوا أن [ ص: 115 ] تكون حالا معطوفة على " ويشهد " إذا كانت حالا ، أو حالا من الضمير المستكن في " ويشهد " . وإذا كان الخصام جمعا ، كان " ألد " من إضافة بعض إلى كل ، وإذا كان مصدرا فقد ذكرنا تصحيح ذلك بالحذف الذي قررناه ، فإن جعلته بمعنى اسم الفاعل ، فهو كالجمع في أن " أفعل " بعض ما أضيف إليه ، وإن تأولت " أفعل " على غير بابها ، " فألد " من باب إضافة الصفة المشبهة . وقال الزمخشري : والخصام المخاصمة ، وإضافة الألد بمعنى في ، كقولهم : " ثبت الغدر " ، انتهى . يعني أن " أفعل " ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه ، بل هي إضافة على معنى " في " ، وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أن أفعل التفضيل لا يضاف إلا لما هي بعض له ، وفيه إثبات الإضافة بمعنى " في " ، وهو قول مرجوح في النحو ، قالوا : وفي هذه الآية دليل على الاحتياط بما يتعلق بأمور الدين والدنيا ، واستواء أحوال الشهود والقضاة ، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم ، حتى يبحث عن باطنهم : لأن الله بين أحوال الناس ، وأن منهم من يظهر جميلا وينوي قبيحا .

التالي السابق


الخدمات العلمية