الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) ، مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة في : النكاح ، والطلاق ، والعدة ، والرجعة ، والعضل ؛ أخذ يذكر حكم ما كان من نتيجة النكاح ، وهو ما شرع من حكم الإرضاع ومدته ، وحكم الكسوة ، والنفقة ، على ما يقع الكلام فيه في هذه الآية ، إن شاء الله . ( والوالدات ) : جمع والدة بالتاء ، وكان القياس أن يقال : والد ، لكن قد أطلق على الأب والد ؛ ولذلك قيل فيه وفي الأم ( الوالدات ) ؛ فجاءت التاء في الوالدة للفرق بين المذكر والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي ، وكأنه روعي في الإطلاق أنهما أصلان للولد ؛ فأطلق عليهما : والدان . وظاهر لفظ " الوالدات " العموم ؛ فيدخل فيه الزوجات والمطلقات . وقال الضحاك ، والسدي ، وغيرهما : في المطلقات ، جعلها الله حدا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين فذلك له ، ورجح هذا القول لأن قوله ( والوالدات ) عقيب آية الطلاق ، فكانت من تتمتها ؛ فشرع ذلك لهن لأن الطلاق يحصل فيه التباغض ، فربما حمل على أذى الولد ؛ لأن إيذاءه إيذاء والده ، ولأن في رغبتها في التزويج بآخر إهمال الولد . وقيل : هي في الزوجات فقط ، لأن المطلقة لا تستحق الكسوة ، وإنما تستحق الأجرة ، ( يرضعن أولادهن ) صورته خبر ، محتمل أن يكون معناه خبرا ، أي : في حكم الله تعالى الذي [ ص: 212 ] شرعه ، فالوالدات أحق برضاع أولادهن ، سواء كانت في حيالة الزوج أو لم تكن ، فإن الإرضاع من خصائص الولادة لا من خصائص الزوجية . ويحتمل أن يكون معناه الأمر كقوله : ( والمطلقات يتربصن ) ، لكنه أمر ندب لا إيجاب ؛ إذ لو كان واجبا لما استحق الأجرة . وقال تعالى : ( وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) ؛ فوجوب الإرضاع إنما هو على الأب لا على الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئرا ، إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه ، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه ، فإذا لم يقبل ثديها ، أو لم يوجد له ظئرا ، وعجز الأب عن الاستئجار ؛ وجب عليها إرضاعه ، فعلى هذا يكون الأمر للوجوب في بعض الوالدات . ومذهب الشافعي أن الإرضاع لا يلزم إلا الوالد أو الجد وإن علا . ومذهب مالك : أنه حق على الزوجة ؛ لأنه كالشرط ، إلا أن تكون شريفة ذات نسب ، فعرفها أن لا ترضع . وعنه خلاف في بعض مسائل الإرضاع . ( حولين كاملين ) ، وصف الحولين بالكمال دفعا للمجاز الذي يحتمله حولين ؛ إذ يقال : أقمت عند فلان حولين - وإن لم يستكملهما - وهي صفة توكيد ، كقوله : ( عشرة كاملة ) ، وجعل تعالى هذه المدة حدا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى كمال الحولين فذلك له . وظاهر قوله : " أولادهن " العموم ؛ فالحولان لكل ولد ، وهو قول الجمهور . وروي عن ابن عباس أنه قال : هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر ، فإن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون ، أو ثمانية ؛ فاثنان وعشرون ، أو تسعة ، فأحد وعشرون ، وكأن هذا القول انبنى على قوله تعالى : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) ؛ لأن ذلك حكم على الإنسان عموما . وفي قوله " يرضعن " دلالة على أن الأم أحق برضاع الولد ، وقد تكلم بعض المفسرين هنا في مسائل لا تعلق لها بلفظ القرآن ، منها : مدة الرضاع المحرمة ، وقدر الرضاع الذي يتعلق به التحريم ، والحضانة ، ومن أحق بها بعد الأم ؟ وما الحكم في الولد إذا تزوجت الأم ؟ وهل للذمية حق في الرضاعة ؟ وأطالوا بنقل الخلاف والدلائل ، وموضوع هذا علم الفقه .

( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) ، هذا يدل على أن الإرضاع في الحولين ليس بحد لا يتعدى ، وإنما ذلك لمن أراد الإتمام ، أما من لا يريده فله فطم الولد دون بلوغ ذلك ، إذا لم يكن فيه ضرر للولد ، وروي عن قتادة أنه قال : تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات ، ثم يسر ذلك وخفف ، فنزل : ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) . قال ابن عطية : وهذا قول متداع . قال الراغب : وفي قوله : ( حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) تنبيه على أنه لا يجوز تجاوز ذلك ، وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين ، وتقوية لإرضاع بعد الحولين ، والرضاعة من المجاعة ، ويؤكده أن كل حكم في الشرع علق بعدد مخصوص يجوز الإخلال به في أحد الطرفين ، لم يجز الإخلال به في الطرف الآخر ، كخيار الثلاث ، وعدد حجارة الاستنجاء ، والمسح على الخفين يوما وليلة وثلاثة أيام ، ولما كان الرضاع يجوز الإخلال في أحد الطرفين - وهو النقصان - لم تجز مجاوزته . انتهى كلامه . وقال غيره : ذكر الحولين ليس على التوقيت الواجب ، وإنما هو لقطع المشاجرة بين الوالدين . وجمهور الفقهاء على أنه يجوز الزيادة والنقصان إذا رأيا ذلك . واللام في " لمن " قيل متعلقة بـ " يرضعن " ، كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، وتكون اللام على هذا للتعليل ، أي : لأجله ؛ فتكون " من " واقعة على الأب ، كأنه قيل : لأجل من أراد أن يتم الرضاعة على الآباء ، وقيل : اللام للتبيين ؛ فيتعلق بمحذوف ، كهي في قولهم : سقيا لك ، وفي قوله تعالى : ( هيت لك ) ، فاللام لتبيين المدعو له بالسقي ، وللمهيت به ، وذلك أنه لما قدم قوله : ( يرضعن أولادهن حولين كاملين ) ؛ بين أن هذا الحكم إنما هو لمن يريد أن يتم الرضاعة من الوالدات ، فتكون " من " واقعة على الأم ، كأنه قيل : ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) من الوالدات . أو تكون " من " واقعة على الوالدات والمولود له ، كل ذلك يحتمله اللفظ . وقرأ الجمهور : " أن يتم الرضاعة " [ ص: 213 ] بالياء ، من أتم ، ونصب الرضاعة . وقرأ مجاهد ، والحسن ، وحميد ، وابن محيص ، وأبو رجاء : " تتم " بالتاء ، من تم ، ورفع الرضاعة . وقرأ أبو حنيفة ، وابن أبي عبلة ، والجارود بن أبي سبرة كذلك ، إلا أنهم كسروا الراء من الرضاعة ، وهي لغة ، كالحضارة والحضارة ، والبصريون يقولون بفتح الراء مع الهاء ، وبكسرها دون الهاء ، والكوفيون يعكسون ذلك ، وروي عن مجاهد أنه قرأ : " الرضعة " على وزن " القصعة " ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ : " أن يكمل الرضاعة " بضم الياء ، وقرئ : " أن يتم " برفع الميم ، ونسبها النحويون إلى مجاهد ، وقد جاز رفع الفعل بعد " أن " في كلام العرب في الشعر . أنشد الفراء رحمه الله تعالى :

أن تهبطين بلاد قو م يرتعون من الطلاح

وقال آخر :


أن تقرآن على أسماء ويحكما مني السلام وأن لا تبلغا أحدا



وهذا عند البصريين هي الناصبة للفعل المضارع ، وترك إعمالها حملا على " ما " أختها في كون كل منهما مصدرية ، وأما الكوفيون فهي عندهم المخففة من الثقيلة ، وشذ وقوعها موقع الناصبة ، كما شذ وقوع الناصبة موقع المخففة في قول جرير :


نرضى عن الله أن الناس قد علموا     أن لا يدانينا من خلقه بشر



والذي يظهر أن إثبات النون في المضارع المذكور مع " أن " مخصوص بضرورة الشعر ، ولا يحفظ " أن " غير ناصبة إلا في هذا الشعر ، والقراءة المنسوبة إلى مجاهد ، وما سبيله هذا ، لا تبنى عليه قاعدة . ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) ، المولود : جنس ، واللام فيه موصولة وصلت باسم المفعول و " أل " كـ " من " ، و " ما " يعود الضمير على اللفظ مفردا مذكرا ، ويجوز أن يعود على المعنى بحسب ما تريده من المعنى من تثنية أو جمع أو تأنيث ، وهنا عاد الضمير على اللفظ ، فجاء له . ويجوز في العربية أن يعود على المعنى ؛ فكان يكون " لهم " ، إلا أنه لم يقرأ به ، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور ، وحذف الفاعل - وهو " الوالدات " - والمفعول به - وهو الأولاد - وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل ، وهذا على مذهب البصريين ، أعني : أن يقام الجار مقام الفاعل إذا حذف ، نحو : مر بزيد . وذهب الكوفيون إلى أن ذلك لا يجوز إلا فيما حرف الجر فيه زائد ، نحو : ما ضرب من أحد ، فإن كان حرف الجر غير زائد لم يجز ذلك عندهم ، ولا يجوز أن يكون الاسم المجرور في موضع رفع باتفاق منهم . واختلفوا بعد هذا الاتفاق في الذي أقيم مقام الفاعل ؛ فذهب الفراء إلى أن حرف الجر وحده في موضع رفع ، كما أن : يقوم من " زيد يقوم " ، في موضع رفع ، وذهب الكسائي وهشام إلى أن مفعول الفعل ضمير مبهم مستتر في الفعل ، وإبهامه من حيث إنه يحتمل أن يراد به ما يدل عليه الفعل من مصدر ، أو ظرف زمان ، أو ظرف مكان ، ولم يقم الدليل على أن المراد به بعض ذلك دون بعض ، ومنهم من ذهب إلى أن مرفوع الفعل ضمير عائد على المصدر ، والتقدير : سير هو ، يريد : أي سير السير ، والضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل ، وهذا سائغ عند بعض البصريين ، وممنوع عند محققي البصريين ، والنظر في دلائل هذه المذاهب تصحيحا وإبطالا يذكر في عالم النحو . وقد وهم بعض كبرائنا فذكر في كتابه المسمى بـ ( الشرح الكبير لجمل الزجاجي ) أن النحويين أجمعوا على جواز إقامة المجرور مقام الفاعل إلا السهيلي ؛ فإنه منع ذلك ، وليس كما ذكر ؛ إذ قد ذكرنا الخلاف عن الفراء ، والكسائي ، وهشام ، والتفصيل في المجرور . وممن تبع السهيلي على قوله : تلميذه أبو علي الزيدي شارح ( الجمل ) . و " المولود له " : هو الوالد ، وهو الأب ، ولم يأت بلفظ الوالد ، ولا بلفظ الأب ، بل جاء بلفظ " المولود له " ، لما في ذلك من إعلام الأب ما منح الله له وأعطاه ؛ إذ [ ص: 214 ] اللام في " له " معناها شبه التمليك ، كقوله تعالى : ( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) ، وهو أحد المعاني التي ذكرناها في اللام في أول الفاتحة ؛ ولذلك يتصرف الوالد في ولده بما يختار ، وتجد الولد في الغالب مطيعا لأبيه ، ممتثلا ما أمر به ، منفذا ما أوصى به ، فالأولاد في الحقيقة هم للآباء ، وينتسبون إليهم لا إلى أمهاتهم ، كما أنشد المأمون بن الرشيد ، وكانت أمه جارية طباخة تدعى مراجل ، قال :


فإنما أمهات الناس أوعية     مستودعات وللأبناء آباء



فلما كان لفظ " المولود " مشعرا بالمنحة وشبه التمليك ، أتى به دون لفظ " الولد " ولفظ " الأب " ، وحيث لم يرد هذا المعنى أتى بلفظ " الوالد " ولفظ " الأب " ، كما قال تعالى : ( لا يجزي والد عن ولده ) ، وقال : ( لا جناح عليهن في آبائهن ) . ولطيفة أخرى في قوله : ( وعلى المولود له ) ، وهو أنه لما كلف بمؤن المرضعة لولده من الرزق والكسوة ؛ ناسب أن يسلى بأن ذلك الولد هو ولد لك لا لأمه ، وأنك الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة ، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك لأجله كلفة الرزق والكسوة لمرضعته . وفسر ابن عطية هنا " الرزق " بأنه الطعام الكافي ؛ فجعله اسما للمرزوق ، كالطحن والرعي . وقال الزمخشري : فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن ؛ فشرح الرزق بـ " أن والفعل " اللذين ينسبك منهما المصدر ، ويحتمل الرزق الوجهين من إرادة المرزوق ، وإرادة المصدر . وقد ذكرنا أن " رزقا " بكسر الراء : حكي مصدرا ، كرزق بفتحها ، فيما تقدم ، وقد جعله مصدرا أبو علي الفارسي في قوله : ( ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ) ، وقد رد ذلك عليه ابن الطراوة ، وسيأتي ذلك في مكانه ، إن شاء الله تعالى . ومعنى " بالمعروف " : ما جرى به العرف من نفقة وكسوة لمثلها ؛ بحيث لا يكون إكثار ولا إقلال ، قاله الضحاك . وقال ابن عطية : " بالمعروف " يجمع جنس القدر في الطعام ، وجودة الاقتضاء له ، وحسن الاقتضاء من المرأة . انتهى كلامه . ولا يدل على حسن الاقتضاء من المرأة ؛ لأن الآية إنما هي فيما يجب على المولود له من الرزق والكسوة ؛ فـ " بالمعروف " يتعلق بـ " رزقهن " أو بـ " كسوتهن " على الإعمال ، إما للأول وإما للثاني - إن كانا مصدرين - وإن عنى بهما المرزوق ، والشأن ؛ فلا بد من حذف مضاف ، التقدير : إيصال أو دفع ، أو ما أشبه ذلك مما يصح به المعنى ، ويكون " بالمعروف " في موضع الحال منهما ؛ فيتعلق بمحذوف . وقيل : العامل فيه معنى الاستقرار في على . وقرأ طلحة : ( وكسوتهن ) بضم الكاف ، وهما لغتان ، يقال : كسوة وكسوة ، بضم الكاف وكسرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية