الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وإذا استقر حفر البئر بحق فوقع فيها واقع ووقع فوقه آخر وحدث من ذلك موت فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يقع الثاني خلف الأول من غير جذب ولا دفع ، فإن مات الأول فديته هدر ، لأنه لا صنع لغيره في موته ، وإن ماتا جميعا وجبت دية الأول على الثاني ، وكانت دية الثاني هدرا لما ذكرنا ، روى علي بن رباح اللخمي أن بصيرا كان يقود أعمى فوقعا في بئر ووقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى ينشد في الموسم ويقول :


                                                                                                                                            يا أيها الناس لقيت منكرا هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا


                                                                                                                                            خرا معا كلاهما تكسرا

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يجذب الأول الثاني فيقع عليه ، فإن مات الأول كانت ديته هدرا ، وإن مات الثاني كانت ديته كلها على الأول بخلاف الضرب الأول ، لأن الجاذب هو القاتل والأول جاذب والثاني مجذوب ، فصار الأول ضامنا غير مضمون ، والثاني مضمونا غير ضامن ، فعلى هذا لو وقع الأول ثم وقع عليه الثاني ، ثم وقع عليهما ثالث ، فإن كان وقوعهم من غير جذب ولا دفع فدية الأول على الثاني والثالث : لأنه [ ص: 376 ] مات بوقوعهما عليه فاشتركا في ديته لاشتراكهما في تلفه ، ودية الثاني على الثالث : لأنه انفرد بالوقوع عليه فانفرد بديته ، ودية الثالث هدر : لأنه تلف من وقوعه ، وإن جذب بعضهم بعضا فجذب الأول الثاني وجذب الثاني الثالث فإذا ماتوا جميعا كان موت الأول والثاني بفعل قد اشتركا فيه ، وموت الثالث بفعل لم يشاركهما فيه ، لأن موت الأول كان بجذبه للثاني وبجذب الثاني للثالث وموت الثاني بجذب الأول وبجذب الثاني للثالث فصار الأول والثاني مشتركين في قتل أنفسهما يجب عليهما حكم المصطدمين ، وكان النصف من دية كل واحد منهما هدرا : لأنه في مقابلة فعله والنصف الآخر على عاقلة صاحبه ، فيكون على عاقلة الأول نصف دية الثاني وباقيها هدر ، وعلى عاقلة الثاني نصف دية الأول وباقيها هدر ، فأما الثالث فهو مجذوب وليس بجاذب ، فتكون جميع ديته مضمونة : لأنه مجذوب ولا يضمن دية غيره ، لأنه ليس بجاذب وفيمن يضمن ديته وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يضمنها الثاني دون الأول ، لأن الثاني هو المباشر بجذبه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يضمنها الثاني والأول بينهما بالسواء ، لأن الأول لما جذب الثاني وجذب الثاني الثالث صارا مشتركين في جذب الثالث فلذلك اشتركا في ضمان ديته ، وعلى هذا لو جذب الأول ثانيا وجذب الثاني ثالثا وجذب الثالث رابعا وماتوا فيسقط الثلث من دية الأول هدرا ، ويجب ثلثاها على الثاني والثالث : لأنه مات بجذبه للثاني وبجذب الثاني للثالث وبجذب الثالث للرابع ، فكان موته بفعله وفعل الثاني وفعل الثالث وليس للرابع فعل : لأنه مجذوب وليس بجاذب فكان ثلث ديته هدرا : لأنه في مقابلة فعله وثلثها على عاقلة الثاني ، وثلثها على عاقلة الثالث ، وهكذا الحكم في الثاني يكون ثلث ديته هدرا ، وثلثاها على عاقلة الأول وثلثها على عاقلة الثالث ، لأنه مات بجذب الأول له وبجذبه للثالث وبجذب الثالث الرابع فصار الأول والثاني والثالث مشتركين في قتل الثالث ، فسقط ثلث الدية ، لأنها في مقابلة فعله ووجب ثلثاها على الأول والثالث ، وأما دية الثالث ففي قدر ما يهدر منها ويضمن وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يهدر نصف ديته ويجب نصفها على الثاني : لأنه مات بجذب الثاني وبجذبه للرابع فصار مشاركا للثاني في قتل نفسه فسقطت نصف ديته ، لأنه في مقابلة قتله ، ووجب نصفها على الثاني وخرج منها الأول ، لأنه باشر جذبه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه ينهدر من ديته ثلثها ويجب ثلثاها على الأول والثاني ، لأن [ ص: 377 ] الأول لما جذب الثاني صار مشاركا له في جذب الثالث ، ولما جذب الثالث الرابع صار مشاركا للأول والثاني في قتل نفسه وهم ثلاثة ، فسقط من ديته ثلثها ، لأنه في مقابلة فعله ، ووجب ثلثاها على الأول والثاني ، وأما دية الرابع فجميعها واجبة لا ينهدر منها شيء : لأنه مجذوب وليس بجاذب ومقتول وليس بقاتل ، وفيمن تجب عليه ديته وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : تجب على الثالث وحده ، لأنه باشر جذبه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنها تجب على الأول والثاني والثالث أثلاثا ، لأن كل واحد منهما جاذب لمن بعده فصاروا مشتركين في جذب الرابع فاشتركوا في تحمل ديته والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية