واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله : ( ما كان لبشر ) فقال ، ابن عباس والربيع ، ، وجماعة : الإشارة إلى وابن جريج محمد - صلى الله عليه وسلم - وذكروا سبب النزول المذكور .
وقال النقاش ، وغيره : الإشارة إلى عيسى ، والآية رادة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره ، ومعنى ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله ) وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون ، والمراد نفي الخبر ، وذلك على قسمين .
أحدهما : أن يكون الانتفاء من حيث العقل ، ويعبر عنه بالنفي التام ، ومثاله قوله : ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ) ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ) .
والثاني : أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء ، ويعبر عنه بالنفي غير التام ، ومثاله قول - رضي الله عنه : ما كان أبي بكر الصديق أن يتقدم أن يصلي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم . لابن أبي قحافة
ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذي النفي فيه ، وهذه الآية من القسم الأول ، لأنا نعلم أنه الله لا يعطي الكذبة والمدعين النبوة ، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام .
والكتاب هنا اسم جنس ، والحكم قيل : بمعنى الحكمة ، ومنه " إن من الشعر لحكما " . وقيل : الحكم هنا السنة ، يعنون لمقابلته الكتاب ، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس ، وهذا من باب الترقي ، بدأ أولا بالكتاب وهو العلم ، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ، ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوة وهي مجمع الخير ، ثم يقول للناس .
أتى بلفظ ثم التي هي للمهلة تعظيما لهذا القول ، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى ، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول ، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم .
( كونوا عبادا لي من دون الله ) عبادا جمع عبد . قال ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدى . قال بعض اللغويين : هذه الجموع [ ص: 505 ] كلها بمعنى . وقال قوم : العباد لله ، والعبيد للبشر . وقال قوم : العبدى إنما يقال في العبيد بني العبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الاستغراق في العبودية .
والذي استقرئت في لفظة العباد أنه جمع عبد ، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع ، والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن ، فانظر قوله - تعالى - : ( والله رؤوف بالعباد ) ( وعباد مكرمون ) و ( ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ) . وأما العبيد ، فيستعمل في التحقير ، ومنه قول امرئ القيس :
قولا لدودان عبيد العصا ما غركم بالأسد الباسل
ومنه قول : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ، ومنه ( حمزة بن عبد المطلب وما ربك بظلام للعبيد ) لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة ، لم يقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله : ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حيز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : ( كونوا عبادا لي من دون الله ) اعبدوني واجعلوني إلها انتهى كلام ابن عطية . وفيه بعض مناقشة .
أما قوله : ومن جموعه : عبيد ، وعبدى ، أما عبيد فالأصح أنه جمع . وقيل : اسم جمع ، وأما عبدى ، فاسم جمع ، وألفه للتأنيث . وأما ما استقرأه أن عبادا يساق في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظا في القرآن بلفظ العباد ، وقوله : وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، وأنشد بيت امرئ القيس ، وقول حمزة ، وقوله تعالى ( بظلام للعبيد ) فليس باستقراء صحيح ، وإنما كثر استعمال عباد ، دون عبيد ; لأن فعالا في جمع فعل غير اليائي العين قياس مطرد ، وجمع فعل على فعيل لا يطرد .
قال : وربما جاء فعيلا ، وهو قليل ، نحو : الكليب والعبيد انتهى . فلما كان فعال هو [ ص: 506 ] المقيس في جمع عبد ، جاء عباد كثيرا . وأما ( سيبويه وما ربك بظلام للعبيد ) فحسن مجيئه هنا ، وإن لم يكن مقيسا أنه جاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله ( أولئك ينادون من مكان بعيد ) وبعده ( قالوا آذناك ما منا من شهيد ) فحسن مجيئه بلفظ " العبيد " مواخاة هاتين الفاصلتين ، ونظير هذا قوله في سورة ق : ( وما أنا بظلام للعبيد ) لأن قبله ( قال قالوا آذناك ما منا من شهيد ) وبعده ( يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ) وأما مدلوله فمدلول عباد سواء .
وأما بيت امرئ القيس فلم يفهم التحقير من لفظ عبيد ، إنما فهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت . وكذلك قول حمزة ، إنما فهم منه معنى التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت ، وفي وقول حمزة على أحد الجائزين .
وقرأ الجمهور : ثم يقول ، بالنصب عطفا على : أن يؤتيه ، وقرأ شبل عن ابن كثير ، ومحبوب عن أبي عمرو : بالرفع على القطع أي : ثم هو يقول . وقرأ الجمهور : " عبادا لي " ، بتسكين ياء الإضافة . وقرأ عيسى بن عمر : بفتحها .
( ولكن كونوا ربانيين ) هذا على إضمار القول تقديره : ولكن يقول كونوا ربانيين ، والرباني ، الحكيم العالم ، قاله قتادة ، وأبو رزين . أو الفقيه ، قاله علي ، ، وابن عباس والحسن ، ومجاهد . أو العالم الحليم ، قاله قتادة وغيره . أو الحكيم الفقيه ، قاله . أو الفقيه العالم ، قاله ابن عباس الحسن ، والضحاك . أو والي الأمر يربيهم ، ويصلحهم ، قاله ابن زيد . أو الحكيم التقي ، قاله ابن جبير . أو المعلم ، قاله . أو العالم ، قاله الزجاج . أو التائب لربه ، قاله المبرد المؤرج . أو الشديد التمسك بدين الله وطاعته ، قاله . أو العالم الحكيم الناصح لله في خلقه ، قاله الزمخشري عطاء . أو العالم العامل بعلمه ، قاله ابن جبير . أو العالم المعلم ، قاله بعضهم . وهذه أقوال متقاربة .
وللصوفية في تفسير أقوال كثيرة غير هذه ، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر ; لأن الحبر هو العالم ، والرباني الذي جمع إلى العلم والفقه النظر بالسياسة والتدبير ، والقيام بأمور الرعية ، وما يصلحهم في دينهم ودنياهم . وفي : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره . قال البخاري ابن عطية : فجملة ما يقال في الرباني : إنه العالم المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس انتهى . ولما مات قال ابن عباس : اليوم مات رباني هذه الأمة . محمد بن الحنفية
( بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) الباء للسبب ، وما : الظاهر أنها مصدرية ، وتعلمون : متعد لواحد على قراءة الحرمين وأبي عمرو ; إذ قرءوا بالتخفيف مضارع علم ، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء ، وفتح العين ، وتشديد اللام المكسورة ، فيتعدى إلى اثنين ، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد ، وأول المفعولين محذوف تقديره : تعلمون الناس الكتاب . وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى ، وقد تقدم أني لا أرى شيئا من هذه التراجيح ; لأنها كلها منقولة متواترة قرءانا ، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى .
وقرأ مجاهد ، والحسن : تعلمون ، بفتح التاء ، والعين ، واللام المشددة ، وهو مضارع حذفت منه التاء ، التقدير : تتعلمون ، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما .
وقرأ أبو حيوة : تدرسون بكسر الراء . وروي عنه : تدرسون ، بضم التاء ، وفتح الدال ، وكسر الراء المشددة أي : تدرسون غيركم العلم ، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية . وقرئ : تدرسون ، من أدرس بمعنى درس نحو : أكرم وكرم ، وأنزل نزل ، وقال : أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم ، والدراسة ، وكفى به دليلا على خيبة سعي من جهد نفسه ، وكد روحه في جمع العلم ، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ، ولا تنفعه بثمرها ، ثم قال أيضا بعد أسطر : وفيه أن من علم ودرس العلم ، ولم يعمل به فليس من الله في شيء ، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته انتهى [ ص: 507 ] كلامه . وفيه دسيسة الاعتزال ، وهو أنه لا يكون مؤمنا عالما إلا بالعمل ، وأن العمل شرط في صحة الإيمان . الزمخشري