( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ) قرأ الحرميان ، والنحويان ، والأعشى والبرجمي : برفع الراء على القطع ، ويختلس أبو عمرو الحركة على أصله ، والفاعل ضمير مستكن في " يأمر " عائد على الله ، قاله ، سيبويه . وقال والزجاج : عائد على : " بشر " ، الموصوف بما سبق ، وهو ابن جريج محمد - صلى الله عليه وسلم - والمعنى على هذه القراءة : أنه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه ربا فيعبد ، ولا هو أيضا يأمر باتخاذ غيره من ملائكة وأنبياء أربابا ، فانتفى أن يدعو لنفسه ولغيره . وإن كان الضمير عائدا على الله فيكون إخبارا من الله أنه لم يأمر بذلك ، فانتفى أمر الله بذلك وأمر أنبيائه .
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة : ولا يأمركم ، بنصب الراء ، وخرجه أبو علي وغيره على أن يكون المعنى : ولا له أن يأمركم ، فقدروا أن مضمرة بعد لا ، وتكون لا ، مؤكدة معنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام . وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، فلا للتوكيد في النفي السابق ، وصار المعنى : ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام .
وقال : قوله : ولا يأمركم ، بالنصب معطوف على قوله : ثم يقول . قال الطبري ابن عطية : وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى انتهى كلامه . ولم يبين جهة الخطأ ، ولا عدم التئام المعنى به ، ووجه الخطأ أنه إذا كان معطوفا على : ثم يقول ، وكانت " لا " لتأسيس النفي ، فلا يمكن إلا أن يقدر العامل قبل لا ، وهو أن ، فينسبك من : أن والفعل المنفي مصدر منتف فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وصف به انتفاء أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، وإذا لم يكن له الانتفاء كان له الثبوت ، فصار آمرا باتخاذهم أربابا ، وهو خطأ ، فإذا جعلت " لا " لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحبا على المصدرين المقدر ثبوتهما ، فينتفي قوله : ( كونوا عبادا لي ) وأمره باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، ويوضح هذا المعنى وضع غير ، موضع لا ، فإذا قلت : ما لزيد فقه ، ولا نحو ، كانت : لا ، لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوصفان ، ولو جعلت لا ، لتأسيس النفي كانت بمعنى غير ، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه ، وثبوت النحو له ، إذ لو قلت : ما لزيد فقه ، وغير نحو ، كان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلت : ما له غير نحو . ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زاد ، كان المعنى : جئت بغير زاد ، وإذا قلت : ما جئت بغير زاد ، معناه : أنك جئت بزاد ؟ لأن لا ، هنا لتأسيس النفي ، وأن يكون من عطف المنفي بـ " لا " على المثبت الداخل عليه النفي ، نحو : ما أريد أن تجهل ، وأن لا تتعلم ، تريد : ما أريد أن لا تتعلم .
وأجاز أن تكون : لا ، لتأسيس النفي ، فذكر أولا كونها زائدة لتأكيد معنى النفي ، ثم قال : والثاني أن يجعل لا ، غير مزيدة ، والمعنى : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى الزمخشري قريشا عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير و المسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك ربا ، قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ، ثم يأمر الناس بعبادته ، وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء .
قال : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، وينصرها قراءة عبد الله : ولن يأمركم ، انتهى كلام . الزمخشري
( أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) هذا استفهام إنكار ، وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح ، إذ الأمر بالكفر على كل حال منكر ، ومعناه : أنه لا يأمر بكفر ، لا بعد الإسلام ولا قبله ، سواء كان الآمر الله ، أم الذي استنبأه الله .
وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسلمين ، ودلالة على أن الكفر ملة واحدة ; إذ الذين اتخذوا الملائكة أربابا ثم الصابئة وعبدة الأوثان ، والذين اتخذوا النبيين أربابا هم اليهود والنصارى والمجوس ، ومع هذا الاختلاف سمى الله الجميع كفرا . و " بعد " : ينتصب بالكفر ، أو : بـ " يأمركم " ، و " إذ " ، مضافة للجملة الاسمية كقوله : [ ص: 508 ] ( واذكروا إذ أنتم قليل ) وأضيف إليها : بعد ، ولا يضاف إليها إلا ظرف زمان .