( فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) أي : [ ص: 480 ] يقول كل منا : لعن الله الكاذب منا في أمر عيسى ، وفي هذا دليل على جواز اللعن لمن أقام على كفره ، وقد لعن - صلى الله عليه وسلم - اليهود . قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وقال أبو أحمد بن عيلان : كانا إذ ذاك مكلفين ; لأن المباهلة عنده لا تصح إلا من مكلف . وقد طول المفسرون بما رووا في قصة المباهلة ، ومضمنها أنه دعاهم إلى المباهلة ، وخرج ب الحسن والحسين ، و فاطمة و علي ، إلى الميعاد ، وأنهم كفوا عن ذلك ، ورضوا بالإقامة على دينهم وأن يؤدوا الجزية ، وأخبرهم أحبارهم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وأخبر هو - صلى الله عليه وسلم - أنهم إن باهلوا عذبوا ، وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوته شاهد عظيم على صحة نبوته .
قال : فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة ، إلا لتبيين الكاذب منه ، ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به ، وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ . الزمخشري
قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته ، هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء ; لأنهم أعز الأهل ، وألصقهم بالقلوب . وربما فداهم الرجل بنفسه ، وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق ، وقدمهم في الذكر على الأنفس ; لينبه على لطف مكانهم ، وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس يفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء ، عليهم السلام ، وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم ير واحد من موافق ، ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك انتهى كلامه .
وقال ابن عطية : وما رواه الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوته أحج لنا على سائر الكفرة ، وأليق بحال محمد - صلى الله عليه وسلم - ودعاء النساء والأبناء للملاعنة أهز للنفوس ، وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين ، وظاهر الأمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءهم بما يخصه ، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ، ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه ، وخاصته فقط انتهى .
وفي الآية دليل على المظاهرة بطريق الإعجاز على من يدعي الباطل بعد وضوح البرهان بطريق القياس ، ومن أغرب الاستدلال ما استدل به من الآية محمد بن علي الحمصي ، وكان متكلما على طريق الإثنى عشرية . على أن عليا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد - صلى الله عليه وسلم . قال : وذلك أن قوله تعالى : ( وأنفسنا وأنفسكم ) ليس المراد نفس محمد - صلى الله عليه [ ص: 481 ] وسلم ; لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد غيره . وأجمعوا على أن الذي هو غيره : علي ، فدلت الآية على أن نفسه نفس الرسول ، ولا يمكن أن يكون عينها ، فالمراد مثلها ، وذلك يقتضي العموم إلا أنه ترك في حق النبوة الفضل ; لقيام الدليل ، ودل الإجماع على أنه كان - صلى الله عليه وسلم - أفضل من سائر الأنبياء ، فلزم أن يكون علي كذلك .
قال : ويؤكد ذلك الحديث المنقول عنه من الموافق والمخالف : " من أراد أن يرى آدم في علمه ، و نوحا في طاعته ، و إبراهيم في حلمه ، و موسى في قومه ، و عيسى في صفوته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب " . فيدل ذلك على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم .
قال : وذلك يدل على أنه أفضل من جميع الأنبياء والصحابة . وأجاب الرازي : بأن الإجماع منعقد على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل ممن ليس بنبي ، وعلي لم يكن نبيا ، فلزم القطع بأنه مخصوص في حق جميع الأنبياء .
وقال الرازي : استدلال الحمصي فاسد من وجوه : منها قوله : إن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه ، تقول العرب : دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني ، وهذا يسميه أبو علي بالتجريد .
ومنها قوله : وأجمعوا على أن الذي هو غيره هو علي ، ليس بصحيح ، بدليل الأقوال التي سيقت في المعنى بقوله : وأنفسنا .
ومنها قوله : فيكون نفسه مثل نفسه ، ولا يلزم من المماثلة أن تكون في جميع الأشياء ، بل تكفي المماثلة في شيء ما ، هذا الذي عليه أهل اللغة ، لا الذي يقوله المتكلمون : من أن المماثلة تكون في جميع صفات النفس ، هذا اصطلاح منهم لا لغة . فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم ، والعرب تقول : هذا من أنفسنا ، أي : من قبيلتنا . وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له . وهذه النزغة التي ذهب إليها هذا الحمصي من كون علي أفضل من الأنبياء - عليهم السلام - سوى محمد - صلى الله عليه وسلم - وتلقفها بعض من ينتحل كلام الصوفية ، ووسع المجال فيها ، فزعم أن الولي أفضل من النبي ، ولم يقصر ذلك على ولي واحد ، كما قصر ذلك الحمصي ، بل زعم أن رتبة الولاية التي لا نبوة معها أفضل من رتبة النبوة . قال : لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة والنبي يأخذ عن الله بواسطة ، ومن أخذ بلا واسطة أفضل ممن أخذ بواسطة . وهذه المقالة مخالفة لمقالات أهل الإسلام . نعوذ بالله من ذلك ، ولا أحد أكذب ممن يدعي أن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، لقد يقشعر المؤمن من سماع هذا الافتراء ، وحكى لي من لا أتهمه عن بعض المنتمين ، إلى أنه من أهل الصلاح ، أنه رؤي في يده كتاب ينظر فيه ، فسئل عنه . فقال : فيه ما أخذته عن رسول الله ، وفيه ما أخذته عن الله شفاها أو شافهني به ، الشك من السامع . فانظر إلى جراءة هذا الكاذب على الله حيث ادعى مقام من كلمه الله كموسى و محمد عليهما - الصلاة والسلام - وعلى سائر الأنبياء .
قيل : وفي هذه الآية ضروب من البلاغة : منها إسناد الفعل إلى غير فاعله ، وهو : ( إذ قال الله ياعيسى ) والله لم يشافهه بذلك ، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة . والاستعارة في : ( متوفيك ) وفي : ( فوق الذين كفروا ) والتفصيل لما أجمل في : ( إلي مرجعكم فأحكم ) بقوله : فأما ، وأما ، والزيادة لزيادة المعنى في ( من ناصرين ) أو : المثل في قوله ( إن مثل عيسى ) . والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله ( نتلوه ) وفي ( فيكون ) وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في ( كمثل آدم ) وبالتجوز بتسمية الشيء ، باسم أصله في ( خلقه من تراب ) . وخطاب العين ، والمراد به غيره ، في ( فلا تكن من الممترين ) . والعام يراد به الخاص في ( ندع أبناءنا ) الآية ، والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال ، والحذف في مواضع كثيرة .