( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) قال : أحل لهم لحوم الإبل ، والشحوم . وقال ابن جريج الربيع : وأشياء من السمك ، وما لا ضئضئة له من الطير ، وكان ذلك في التوراة محرما . وقال بعض المفسرين : حرم عليكم ، إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى ، وشرعوه ، فكأن عيسى رد أحكام التوراة إلى حقائقها التي نزلت من عند الله انتهى كلامه . واختلفوا في إحلاله لهم السبت . وقرأ عكرمة : ما حرم عليكم ، مبنيا للفاعل ، والفاعل ضمير يعود على ما ، من قوله : لما بين يدي ، أو يعود على الله منزل التوراة ، أو على موسى صاحب التوراة . والظاهر الأول لأنه مذكور . وقرأ : حرم ، بوزن : كرم ، ، والمراد ببعض مدلولها المتعارف ، وزعم إبراهيم النخعي أبو عبيدة أن المراد به هنا معنى كل خطأ ، لأنه كان يلزم أن يحل لهم القتل ، والزنا ، والسرقة ; لأن ذلك محرم عليهم ، واستدلاله على أن بعضا ، تأتي بمعنى كل ، بقول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو ترتبط بعض النفوس حمامها
ليس بصحيح ، لأن بعضا على مدلوله ، إذ يريد نفسه ، فهو تبعيض صحيح ، وكذلك استدلال من استدل بقوله :
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
لصحة التبعيض ، إذ ليس كل ما دبره الأحداث يكون فيه الخلل . وقال بعضهم : لا يقوم بعض مقام كل إلا إذا دلت قرينة على ذلك ، نحو قوله :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
يريد : بعض الشر أهون من كله انتهى . وفي ذلك نظر ، واللام في : ولأحل لكم ، لام كي ، ولم يتقدم ما يسوغ عطفه عليه من جهة اللفظ ، فقيل : هو معطوف على المعنى ، إذ المعنى في : ومصدقا ، أي : لأصدق ما بين يدي من التوراة ، ولأحل لكم . وهذا هو العطف على التوهم ، وليس هذا منه ; لأن معقولية الحال مخالفة لمعقولية التعليل ، والعطف على التوهم لا بد أن يكون المعنى متحدا في المعطوف والمعطوف عليه .
[ ص: 469 ] ألا ترى إلى قوله : فأصدق وأكن ؛ كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض ؟ وكذلك قوله :
تقي نقي لم يكثر غنيمة بنكهة ذي قربى ولا بخفلد
كيف اتحد معنى النفي في قوله : لم يكثر ، ولا في قوله : ولا بخفلد ؟ أي : ليس بمكثر ولا بخفلد . وكذلك ما جاء من هذا النوع . وقيل : اللام تتعلق بفعل مضمر بعد الواو يفسره المعنى : أي وجئتكم لأحل لكم . وقيل : تتعلق اللام بقوله : وأطيعون ، والمعنى : واتبعون لأحل لكم ، وهذا بعيد جدا . وقال أبو البقاء : هو معطوف على محذوف تقديره : لأخفف عنكم ، أو نحو ذلك . وقال : ولأحل ، رد على قوله : بآية من ربكم ، أي : جئتكم بآية من ربكم ، لأن : بآية ، في موضع حال ، ولأحل : تعليل ولا يصح عطف التعليل على الحال ; لأن العطف بالحرف المشترك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه ، فإن عطفت على مصدر ، أو مفعول به ، أو ظرف ، أو حال ، أو تعليل ، أو غير ذلك شاركه في ذلك المعطوف . الزمخشري
( وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه ) ظاهر اللفظ أن يكون قوله : ( وجئتكم بآية من ربكم ) للتأسيس ، لا للتوكيد ، لقوله : قد جئتكم بآية من ربكم ، وتكون هذه الآية قوله : ( إن الله ربي وربكم فاعبدوه ) ; لأن هذا القول شاهد على صحة رسالته ، إذ جميع الرسل كانوا عليه لم يختلفوا فيه ، وجعل هذا القول آية وعلامة ; لأنه رسول كسائر الرسل ، حيث هداه للنظر في أدلة العقل والاستدلال . وكسر : إن ، على هذا القول لأن قولا قبلها محذوف ، وذلك القول بدل من الآية ، فهو معمول للبدل . ومن قرأ بفتح : " أن " ، فعلى جهة البدل من آية ، ولا تكون الجملة من قوله : إن ، بالكسر مستأنفة على هذا التقدير من إضمار القول ، ويكون قوله : ( فاتقوا الله وأطيعون ) جملة اعتراضية بين البدل والمبدل منه .
وقيل : الآية الأولى في قوله : ( قد جئتكم بآية ) هي معجزة . وفي قوله : ( وجئتكم بآية ) هي الآية من الإنجيل ، فاختلف متعلق المجيء ، ويجوز أن يكون ( وجئتكم بآية من ربكم ) كررت على سبيل التوكيد ، أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير ، والإبراء ، والإحياء ، والإنباء بالخفيات ، وبغيره من ولادتي من غير أب ، ومن كلامي في المهد ، وسائر الآيات . فعلى هذا من كسر : إن ، فعلى الاستئناف ، ومن فتح فقيل التقدير : لأن الله ربي وربك فاعبدوه ، فيكون متعلقا بقوله : فاعبدوه ، كقوله : ( لإيلاف قريش ) ثم قال : ( فليعبدوا ) فقدم أن على عاملها . ومن جوز أن تتقدم أن ، ويتأخر عنها العامل ، في نحو : هذا غير مصيب ؛ لا يجوز : أن زيدا منطلق عرفت ، نص على ذلك وغيره ، ويجوز أن يكون المعنى : وجئتكم بآية على أن الله ربي وربكم ، وما بينهما اعتراض . وقال سيبويه ابن عطية : التقدير : أطيعون ; لأن الله ربي وربكم ، انتهى . وليس قوله بظاهر .
والأمر بالتقوى ، والطاعة ، تحذير ودعاء ، والمعنى أنه : تظاهر بالحجج ، والخوارق في صدقه ، فاتقوا الله في خلافي ، وأطيعون في أمري ، ونهيي . وقيل : اتقوا الله فيما أمركم به ، ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله علىموسى ، وأطيعون فيما دعوتكم إليه ، من تصديقي فيما أرسلني به إليكم . وتكرار : ربي وربكم ، أبلغ في التزام العبودية من قوله : ربنا ، وأدل على التبري من الربوبية .
( هذا صراط مستقيم ) أي : طريق واضح لمن يسلكه لا اعوجاج فيه ، والإشارة بهذا إلى قوله : ( إن الله ربي وربكم فاعبدوه ) أي : إفراد الله وحده بالعبادة ، هو الطريق المستقيم ، ولفظ العبادة يجمع الإيمان والطاعات .
وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة والبديع : إسناد الفعل للآمر به لا لفاعله ، في قوله : إن الله يبشرك ، إذ هم المشافهون بالبشارة ، والله الآمر بها . ومثله : نادى السلطان في البلد بكذا ، وإطلاق اسم السبب على المسبب في قوله : بكلمة منه ، على [ ص: 470 ] الخلاف الذي في تفسير : كلمة .
والاحتراس : في قوله : وكهلا ، من ما جرت به العادة أن من تكلم في حال الطفولة لا يعيش .
والكناية : في قوله : ولم يمسسني بشر ، كنت بالمس عن الوطء ، كما كنى عنه : بالحرث ، واللباس ، والمباشرة .
والسؤال والجواب في : قالت الملائكة ، وفي أنى يكون ؟ . والتكرار في : جئتكم بآية . وفي : أني أخلق لكم . وفي : الطير ، وفي : بإذن الله ؛ وفي : ربي وربكم ، وفي ما في قوله : بما تأكلون وما .
والتعبير عن الجمع بالمفرد في الآية ، وفي الأكمه والأبرص ، وفي : إذا قضى أمرا .
والطباق في : وأحيي الموتى ، وفي : لأحل ، وحرم . والالتفات في : ونعلمه ، فيمن قرأ بالنون . والتفسير بعد الإبهام في : من قال : الكتاب مبهم غير معين ، والتوراة والإنجيل تفسير له ، والحذف في عدة مواضع .