[ ص: 603 ] الوجه الرابع والعشرون: أن يقال: هذا العمل يتضمن ثلاثة أشياء: الرفع الذي في الإشارة الحسية الظاهرة، والقصد والإرادة التي في القلب التي يقصد بها الصمد الأعلى، والاعتقاد الذي هو أصل القصد الذي هو أصل العمل. فإن كل عمل اختياري لا بد فيه من إرادة وشعور، وأنت تزعم أن الثلاثة فاسدة، وأن هذا العمل التابع للإرادة سبب الإرادة فيه هو تخييل غير مطابق. فيقال لك: لو كان الأمر كذلك لكان النهي عن ذلك من أعظم الواجبات في الدين، إذ ذاك من أعظم المنكرات لتضمنه اعتقادا فاسدا في حق الله تعالى، ودعاء فاسدا متعلقا به، وعبادة غير صالحة له.
ومن المعلوم أن الله قد بعث الأولين والآخرين من النبيين مبشرين ومنذرين، ولم ينه أحد من الأنبياء والمرسلين لبني آدم عن شيء من ذلك لا عن هذا الرفع ولا عن هذا القصد ولا عن هذا الاعتقاد، بل كان الأنبياء موافقين لهم على هذا العمل، وذلك يوجب العلم الضروري من دين النبيين، أن ذلك عندهم ليس من المنكر بل من المعروف، وذلك يبطل كونه مبنيا على اعتقاد فاسد في حق الله تعالى مستلزما له ودالا عليه، فإن [ ص: 604 ] كل ما كان متفرعا عن الاعتقاد الفاسد أو كان مستلزما له مثل أن يكون دليلا عليه فإنه يجب النهي عنه، فإن العقائد الفاسدة والمقاصد الفاسدة في حق الله تعالى تجب إزالتها وإزالة فروعها وأصولها التي توجبها.
وإذا كان كذلك فالجهمية تنهى عن هذا الاعتقاد وهذه الإرادة، فهم ناهون عن معرفة الله تعالى وعبادته، وليس هذا مختصا بهذا الموضع، بل هم كذلك، إذ أصل قولهم هو قول المشركين المنكرين لملة إبراهيم، ولهذا كان أولهم الذي ضحى به أمير المشرق يوم النحر. وقال: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح الجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ بالجعد بن درهم، إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، ثم [ ص: 605 ] نزل فذبحه، وشكره العلماء على ذلك، وكان هذا في زمن التابعين، وذلك أن الله بعث الرسل تدعو الخلق إلى عبادته الجامعة لمعرفته بأسمائه وصفاته وآياته، ولمحبته والإنابة إليه وإخلاص الدين له، حتى يكون الدين كله لله، والجهمية تصد القلوب عن معرفته ومحبته وعبادته بحسب تجهمهم، إذ هم بين المستقل والمستكثر، ولا تجد أحدا فيه شعبة من التجهم إلا وفيه من نقص التوحيد والإيمان بحسب ذلك. ولهذا كانت المعتزلة من أبعد الناس عن طريقة أولياء الله المتقين العارفين بطريق الله علما، السالكين فيه عملا وحالا وقصدا.