فالأدلة العقلية التي تستحق أن تسمى أدلة عقلية على المطالب العالية الإلهية، وهي الإيمان بالرب تعالى، والإيمان بكتبه ورسله، والإيمان باليوم الآخر، والعمل الصالح الذي به يسعد الناس، وينجون من العذاب في الدنيا والآخرة قد دل عليه القرآن أحسن دلالة، وبينه أحسن بيان، بل ضرب الله في القرآن من كل مثل، وجميع ما يذكره الناس في هذا الباب متكلمهم ومتفلسفهم ما كان فيه حقا فقد جاء القرآن به وبأحسن منه على أكمل الوجوه، بل ما جاءت به النبوات في التوراة والإنجيل من المطالب الإلهية جاء القرآن بها، وما حرفها، فكيف بالأمور التي تعرف بمجرد العقل من غير وحي من السماء في هذا الباب؟ فإن معرفة هذه أيسر.
[ ص: 529 ]
فإذا كان القرآن قد اشتمل على معاني الكتب، فكيف لا يشتمل على هذه؟ وهذه الجملة لها تفصيل مبسوط في مواضع، بل بين في مواضع أن ما سلكه أهل البدع من أهل الفلسفة والكلام لا يصلون إلى علم ويقين، بل إنما غاية صاحبه الشك والضلال، وهذا مما اعترف به حذاقهم، وممن اعترف به
أبو عبد الله الرازي رحمه الله في غير موضع من كتبه، ولفظه في بعضها:
nindex.php?page=treesubj&link=29615 "لقد تأملت الكتب الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرحمن على العرش استوى [طه: 5]. و
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=10إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10]. وأقرأ في النفي:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء [الشورى: 11].
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=110ولا يحيطون به علما [طه: 110]. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".
وهذا قاله في آخر عمره في آخر ما صنفه، وهو كثير التناقض، يقول القول ثم يرجع عنه، ويقول في الآخر
[ ص: 530 ] ما يناقضه، كما يوجد هذا في عامة كتبه تغمده الله برحمته وعفا عنه وسائر المؤمنين.
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=10ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم [الحشر: 10]. وتوبته معروفة مشهورة.
فَالْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُسَمَّى أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً عَلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهِيَ الْإِيمَانُ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي بِهِ يَسْعَدُ النَّاسُ، وَيَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَحْسَنَ دَلَالَةٍ، وَبَيَّنَهُ أَحْسَنَ بَيَانٍ، بَلْ ضَرَبَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، وَجَمِيعُ مَا يَذْكُرُهُ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ مُتَكَلِّمُهُمْ وَمُتَفَلْسِفُهُمْ مَا كَانَ فِيهِ حَقًّا فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِ وَبِأَحْسَنَ مِنْهُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، بَلْ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهَا، وَمَا حَرَّفَهَا، فَكَيْفَ بِالْأُمُورِ الَّتِي تُعْرَفُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ مِنَ السَّمَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ؟ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ أَيْسَرُ.
[ ص: 529 ]
فَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى مَعَانِي الْكُتُبِ، فَكَيْفَ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ؟ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَهَا تَفْصِيلٌ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ، بَلْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أَنَّ مَا سَلَكَهُ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ لَا يَصِلُونَ إِلَى عِلْمٍ وَيَقِينٍ، بَلْ إِنَّمَا غَايَةُ صَاحِبِهِ الشَّكُّ وَالضَّلَالُ، وَهَذَا مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ حُذَّاقُهُمْ، وَمِمَّنِ اعْتَرَفَ بِهِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَلَفْظُهُ فِي بَعْضِهَا:
nindex.php?page=treesubj&link=29615 "لَقَدْ تَأَمَّلْتُ الْكُتُبَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتُهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرِقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، أَقْرَأُ فِي الْإِثْبَاتِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]. وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=10إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٌ: 10]. وَأَقْرَأُ فِي النَّفْيِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11].
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=110وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110]. وَمِنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي".
وَهَذَا قَالَهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فِي آخِرِ مَا صَنَّفَهُ، وَهُوَ كَثِيرُ التَّنَاقُضِ، يَقُولُ الْقَوْلَ ثُمَّ يَرْجِعُ عَنْهُ، وَيَقُولُ فِي الْآخَرِ
[ ص: 530 ] مَا يُنَاقِضُهُ، كَمَا يُوجَدُ هَذَا فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَعَفَا عَنْهُ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ.
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=10رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الْحَشْرُ: 10]. وَتَوْبَتُهُ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ.