[ ص: 494 ] فصل
nindex.php?page=treesubj&link=29619_29426«يجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة، أن يفحص عن منافع جميع الموجودات. وأما دلالة الاختراع، فيدخل فيها وجود الحيوان كله، ووجود النبات ووجود السموات، وهذه الطريقة تنبني على أصلين، موجودين بالقوة في جميع فطر الناس:
أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة. وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=73إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له [الحج: 73] الآية؛ فإنا نرى أجساما جمادية، ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعا، أن هاهنا موجدا للحياة ومنعما بها، وهو الله تبارك وتعالى، وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر، أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا، ومسخرة لنا، والمسخر المأمور، مخترع من قبل غيره ضرورة.
وأما الأصل الثاني: فهو أن كل مخترع فله مخترع، فيصح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلا مخترعا له، وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات.
[ ص: 495 ] ولذلك كان واجبا على من أراد أن يعرف الله حق معرفته، أن يعرف جواهر الأشياء، ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع، ولهذا أشار تعالى وتقدس بقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=185أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء [الأعراف: 185] وكذلك أيضا من تتبع معنى الحكمة في موجود موجود؛ أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق، والغاية المقصودة به، كان وقوفه على دليل العناية أتم. فهذان الدليلان هما دليلا الشرع.
وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز، هي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة فهذا بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى وذلك أن الآيات في الكتاب العزيز في هذا المعنى إذا تصفحت وجدت على
[ ص: 496 ] ثلاثة أنواع:
إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية.
وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع.
وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعا.
فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط، فمثل قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=6ألم نجعل الأرض مهادا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=7والجبال أوتادا [النبأ: 6-7]-إلى قوله-
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=16وجنات ألفافا [النبأ: 16] ومثل قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=61تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [الفرقان: 61] إلى قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=62أو أراد شكورا [الفرقان: 62] ومثل قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=24فلينظر الإنسان إلى طعامه [عبس: 24] الآية. ومثل هذا في القرآن كثير.
وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط، فمثل قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=86&ayano=5فلينظر الإنسان مم خلق nindex.php?page=tafseer&surano=86&ayano=6خلق من ماء دافق [الطارق: 5-6] ومثل قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=17أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت [الغاشية: 17] الآية، ومثل قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=73يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له [الحج: 73] ومن هذا قوله تعالى حكاية
[ ص: 497 ] عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=79إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين [الأنعام: 79] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.
فأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضا، بل هي الأكثر مثل قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة: 21] إلى قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [البقرة: 22] فإن قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة: 21] تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء [البقرة: 22] تنبيه على دلالة العناية، ومثل قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=33وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون [يس: 33] وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=191ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار [آل عمران: 191] وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى، يوجد فيها النوعان من الدلالة.
فهذه الطريق هي الصراط المستقيم، التي دعا الله
[ ص: 498 ] تعالى الناس منها إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى، وإلى هذه الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر، الإشارة بقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم [الأعراف: 172] إلى قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172بلى شهدنا [الأعراف: 172] ولهذا قد يجب على من كان وكده، طاعة الله في الإيمان به، وامتثال ما جاء به رسله أن يسلك هذه الطريقة، حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية، مع شهادته لنفسه، وشهادة ملائكته له، كما قال تبارك وتعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=18شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم [آل عمران: 18] ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين عليه، هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [الإسراء: 44].
فقد بان من هذا أن
nindex.php?page=treesubj&link=29426_29619الأدلة على وجود الصانع تعالى منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية، ودلالة الاختراع. وأن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص -وأعني
[ ص: 499 ] بالخواص العلماء- وطريقة الجمهور، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل: أعني أن الجمهور يقتصرون في معرفة العناية والاختراع، على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما العلماء، فيزيدون إلى ما يذكرون من هذه الأشياء بالحس ما يدركون بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب ألف منفعة. وإذا كان هذا هكذا، فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب. والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط؛ بل ومن قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه؛ فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات، مثالهم في النظر إلى المصنوعات، التي ليس عندهم علم بصنعتها؛ فإنهم إنما يعرفون من أمرها، أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعا موجودا، ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى
[ ص: 500 ] المصنوعات التي عنده علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة فيها، ولا شك أن من حاله من العلماء بالمصنوعات هذه الحال، فهو أعلم بالصانع، من جهة ما هو صانع، من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط. وأما مثال
الدهرية في هذا، الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى، فمثال من أحس مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات، بل نسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته».
[ ص: 494 ] فَصْلٌ
nindex.php?page=treesubj&link=29619_29426«يَجِبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَعَالَى الْمَعْرِفَةَ التَّامَّةَ، أَنْ يَفْحَصَ عَنْ مَنَافِعِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ الِاخْتِرَاعِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا وُجُودُ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ، وَوُجُودُ النَّبَاتِ وَوُجُودُ السَّمَوَاتِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ، مَوْجُودَيْنِ بِالْقُوَّةِ فِي جَمِيعِ فِطَرِ النَّاسِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ مُخْتَرَعَةٌ. وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِنَفْسِهِ فِي الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=73إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَجُّ: 73] الْآيَةَ؛ فَإِنَّا نَرَى أَجْسَامًا جَمَادِيَّةً، ثُمَّ تَحْدُثُ فِيهَا الْحَيَاةُ، فَنَعْلَمُ قَطْعًا، أَنَّ هَاهُنَا مُوجِدًا لِلْحَيَاةِ وَمُنْعِمًا بِهَا، وَهُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَمَّا السَّمَوَاتُ فَنَعْلَمُ مِنْ قِبَلِ حَرَكَاتِهَا الَّتِي لَا تَفْتُرُ، أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالْعِنَايَةِ بِمَا هَاهُنَا، وَمُسَخَّرَةٌ لَنَا، وَالْمُسَخَّرُ الْمَأْمُورُ، مُخْتَرَعٌ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ ضَرُورَةً.
وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مُخْتَرَعٍ فَلَهُ مُخْتَرِعٌ، فَيَصِحُّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَنَّ لِلْمَوْجُودِ فَاعِلًا مُخْتَرِعًا لَهُ، وَفِي هَذَا الْجِنْسِ دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ عَلَى عَدَدِ الْمُخْتَرَعَاتِ.
[ ص: 495 ] وَلِذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، أَنْ يَعْرِفَ جَوَاهِرَ الْأَشْيَاءِ، لِيَقِفَ عَلَى الِاخْتِرَاعِ الْحَقِيقِيِّ فِي جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الِاخْتِرَاعِ، وَلِهَذَا أَشَارَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ بِقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=185أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الْأَعْرَافُ: 185] وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَنْ تَتَبَّعَ مَعْنَى الْحِكْمَةِ فِي مَوْجُودِ مَوْجُودٍ؛ أَعْنِي مَعْرِفَةَ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خُلِقَ، وَالْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِهِ، كَانَ وُقُوفُهُ عَلَى دَلِيلِ الْعِنَايَةِ أَتَمَّ. فَهَذَانَ الدَّلِيلَانِ هُمَا دَلِيلَا الشَّرْعِ.
وَأَمَّا أَنَّ الْآيَاتِ الْمُنَبِّهَةَ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، هِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ مِنَ الْأَدِلَّةِ فَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فِي هَذَا الْمَعْنَى إِذَا تُصُفِّحَتْ وُجِدَتْ عَلَى
[ ص: 496 ] ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:
إِمَّا آيَاتٍ تَتَضَمَّنُ التَّنْبِيهَ عَلَى دَلَالَةِ الْعِنَايَةِ.
وَإِمَّا آيَاتٍ تَتَضَمَّنُ التَّنْبِيهَ عَلَى دَلَالَةِ الِاخْتِرَاعِ.
وَإِمَّا آيَاتٍ تَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الدَّلَالَةِ جَمِيعًا.
فَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ دَلَالَةَ الْعِنَايَةِ فَقَطْ، فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=6أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=7وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [النَّبَأُ: 6-7]-إِلَى قَوْلِهِ-
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=16وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [النَّبَأُ: 16] وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=61تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الْفُرْقَانُ: 61] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=62أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الْفُرْقَانُ: 62] وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=24فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عَبَسَ: 24] الْآيَةَ. وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَضَمَّنَتْ دَلَالَةَ الِاخْتِرَاعِ فَقَطْ، فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=86&ayano=5فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ nindex.php?page=tafseer&surano=86&ayano=6خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطَّارِقُ: 5-6] وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=17أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الْغَاشِيَةُ: 17] الْآيَةَ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=73يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَجُّ: 73] وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً
[ ص: 497 ] عَنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=79إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامُ: 79] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي لَا تُحْصَى.
فَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَجْمَعُ الدَّلَالَتَيْنِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ أَيْضًا، بَلْ هِيَ الْأَكْثَرُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةُ: 21] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةُ: 22] فَإِنَّ قَوْلَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةُ: 21] تَنْبِيهٌ عَلَى دَلَالَةِ الِاخْتِرَاعِ، وَقَوْلَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [الْبَقَرَةُ: 22] تَنْبِيهٌ عَلَى دَلَالَةِ الْعِنَايَةِ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=33وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33] وَقَوْلُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=191وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آلُ عِمْرَانَ: 191] وَأَكْثَرُ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، يُوجَدُ فِيهَا النَّوْعَانِ مِنَ الدَّلَالَةِ.
فَهَذِهِ الطَّرِيقُ هِيَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، الَّتِي دَعَا اللَّهُ
[ ص: 498 ] تَعَالَى النَّاسَ مِنْهَا إِلَى مَعْرِفَةِ وَجُودِهِ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَا جَعَلَ فِي فِطَرِهِمْ مِنْ إِدْرَاكِ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ الْأُولَى الْمَغْرُوزَةِ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ، الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ [الْأَعْرَافُ: 172] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172بَلَى شَهِدْنَا [الْأَعْرَافُ: 172] وَلِهَذَا قَدْ يَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ وَكَدُّهُ، طَاعَةَ اللَّهِ فِي الْإِيمَانِ بِهِ، وَامْتِثَالَ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُ أَنْ يَسْلُكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، مَعَ شَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ، وَشَهَادَةِ مَلَائِكَتِهِ لَهُ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=18شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آلُ عِمْرَانَ: 18] وَدَلَالَةُ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ عَلَيْهِ، هُوَ التَّسْبِيحُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءُ: 44].
فَقَدْ بَانَ مِنْ هَذَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29426_29619الْأَدِلَّةَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ تَعَالَى مُنْحَصِرَةٌ فِي هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ: دَلَالَةِ الْعِنَايَةِ، وَدَلَالَةِ الِاخْتِرَاعِ. وَأَنَّ هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ هُمَا بِأَعْيَانِهِمَا طَرِيقَةُ الْخَوَاصِّ -وَأَعْنِي
[ ص: 499 ] بِالْخَوَاصِّ الْعُلَمَاءَ- وَطَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمَعْرِفَتَيْنِ فِي التَّفْصِيلِ: أَعْنِي أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقْتَصِرُونَ فِي مَعْرِفَةِ الْعِنَايَةِ وَالِاخْتِرَاعِ، عَلَى مَا هُوَ مُدْرَكٌ بِالْمَعْرِفَةِ الْأُولَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى عِلْمِ الْحِسِّ، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ، فَيَزِيدُونَ إِلَى مَا يَذْكُرُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْحِسِّ مَا يُدْرِكُونَ بِالْبُرْهَانِ، أَعْنِي مِنَ الْعِنَايَةِ وَالِاخْتِرَاعِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الَّذِي أَدْرَكَ الْعُلَمَاءُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَنَافِعِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ هُوَ قَرِيبُ أَلْفِ مَنْفَعَةٍ. وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا، فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ، وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهَا الْكُتُبُ. وَالْعُلَمَاءُ لَيْسُوا يَفْضُلُونَ الْجُمْهُورَ فِي هَذَيْنِ الِاسْتِدْلَالَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْكَثْرَةِ فَقَطْ؛ بَلْ وَمِنْ قِبَلِ التَّعَمُّقِ فِي مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ مِثَالَ الْجُمْهُورِ فِي النَّظَرِ إِلَى الْمَوْجُودَاتِ، مِثَالُهُمْ فِي النَّظَرِ إِلَى الْمَصْنُوعَاتِ، الَّتِي لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِصَنْعَتِهَا؛ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْرِفُونَ مِنْ أَمْرِهَا، أَنَّهَا مَصْنُوعَاتٌ فَقَطْ، وَأَنَّ لَهَا صَانِعًا مَوْجُودًا، وَمِثَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مِثَالُ مَنْ نَظَرَ إِلَى
[ ص: 500 ] الْمَصْنُوعَاتِ الَّتِي عِنْدَهُ عَلِمَ بِبَعْضِ صَنْعَتِهَا وَبِوَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ حَالُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْمَصْنُوعَاتِ هَذِهِ الْحَالُ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِالصَّانِعِ، مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ صَانِعٌ، مِنَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ مِنْ تِلْكَ الْمَصْنُوعَاتِ إِلَّا أَنَّهَا مَصْنُوعَةٌ فَقَطْ. وَأَمَّا مِثَالُ
الدَّهْرِيَّةِ فِي هَذَا، الَّذِينَ جَحَدُوا الصَّانِعَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَمِثَالُ مَنْ أَحَسَّ مَصْنُوعَاتٍ فَلَمْ يَعْتَرِفْ أَنَّهَا مَصْنُوعَاتٌ، بَلْ نَسَبَ مَا رَأَى فِيهَا مِنَ الصَّنْعَةِ إِلَى الِاتِّفَاقِ وَالْأَمْرِ الَّذِي يَحْدُثُ مِنْ ذَاتِهِ».