الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الثامن: أنه إذا كان المتشابه هو المجمل والمشترك، وكلاهما لا يفهم منه المراد، ولا يدل عليه، لم يكن واحد منهما بيانا، ولا هدى، ولا مبينا، ولا يعلم أنه المراد، وقد [ ص: 397 ] تقدم أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى وبيان ومبين، ونحو ذلك من الأسماء، فدل على أنه ليس فيه هذا الذي جعله متشابها، وهو المجمل والمشترك والمؤول، بخلاف المجمل الذي يدل على جنس الحكم دون قدره أو وصفه، فإن ذلك دل على ما أريد به، فهو هدى وبيان له، ولكن ثم أمور أخرى لم يدل عليها، وليس كل لفظ يدل على كل شيء، بخلاف المشترك الذي لا يدل على المراد، فإنه لا يحصل به هدى وبيان، وما ذكر يدل على أنه ليس في القرآن لفظ يحتمل معنيين على السواء لم يبين المراد به، ولا لفظ يحتمل المراد به احتمالا مرجوحا ولم يبين المراد به، بل لا بد أن يقترن به ما يبين المراد، فيصير المراد هو الذي يدل عليه اللفظ مع تلك القرينة، ولا يكون حينئذ مرجوحا، بل ظاهرا أو مقطوعا به. [ ص: 398 ]

فإن قيل: القرينة هي الدليل العقلي الدال على امتناع إرادة المعنى الباطل.

قيل: أولا، هذا لا يدل على معنى اللفظ المراد به، وإنما دل -إن دل- على امتناع إرادة معنى آخر، والدلالة على نفي غير المراد ليست هي الدلالة على المراد، فقد يعلم بأدلة عقلية وسمعية أنه لم يرد معنيين، وإن لم يعلم مراده، واللفظ الذي تكلم به لا بد أن يدل على المراد إما بمجرده، وإما مع القرينة، فإن لم يدل لم يكن من الكلام المستعمل، إذ لا بد من معنى أريد به، وحينئذ فإذا كان المجمل والمتشابه كلاهما لا يدل على المراد ولا يفهم منه، لم يكونا من أقسام الكلام، ولا سيما ولهم قولان:

أحدهما: أن معنى المتشابه غير معلوم، فلا يكون اللفظ قد دل على المراد.

والثاني: أنه يحتمل أمورا متعددة، ولا يجزم بواحد منها، والمراد على هذا التقدير غير معلوم، فدل على أنه لم يدل القرآن على مراد الرب -سبحانه وتعالى- لا بنفسه، ولا مع قرينة، وهذا القول من جنس قول من يقول: لا معنى له، أو له معنى لا يمكن العلم به، وقد عرف فساد هذا، وهو من جنس أقوال الملحدين، [ ص: 399 ] لا المؤمنين الموحدين، وهؤلاء وإن قالوا: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، فهم عند أنفسهم ليسوا من الراسخين في العلم، لا يعلمون المراد، ولا يجزمون به، بل إما أن لا يعلموه ولا يظنوه، وإما أن يظنوه أحد معان متعددة، وليس ذلك علما به، ولا ظنا بعينه، وغايتهم أن يعينوا معنى يظنونه ويرجحونه، أو لا يعرفون غيره، وهذا ظن ليس بعلم، فعلى كل تقدير لم يعلموا تأويله، فلم يكونوا من الراسخين، وكيف يكونون من الراسخين، والراسخ: الثابت؟ يقال: رسخ رسوخا، إذا ثبت، وهذه صفة من يثبته الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهؤلاء أهل شك وريب واضطراب، [ ص: 400 ] لا أصحاب رسوخ وثبات ويقين، بل قد يدعون اليقين بنقيض، وليس عندهم فيه إلا الشك، والحيرة أعظم من حيرتهم في معاني القرآن، كما صرحوا بذلك، وكما هو مبسوط في موضعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية