فالأول: كالمصلي. والثاني: كالمجاهد.
فهذا يكون متقربا إلى الله تعالى بغاية التقرب، فيتقرب الله إليه -أيضا- كذلك، فيكون الله عنده في قلبه. وهذا على ثلاث درجات:-
[ ص: 263 ] أما الدرجة الأولى: فهو وهذا مما لا ينازع فيه. وجود الرب عنده في قلبه معلوما، معبودا، محبوبا، معظما،
الثانية: بحيث يقرب نفس الظرف إلى المظروف، حتى يحصل من كون الله نفسه عنده ما ليس لغيره، وهذا متفق عليه بين أهل الإثبات. صعود قلبه إلى الله، وعروجه إليه، ودنوه منه، والجهمية تنازع فيه، ويلزم من قربه هو من الله ودنوه منه: قرب الرب منه ودنوه منه، فإن ما قربت إليه فقد قرب إليك بالضرورة.
الثالثة: غير ما جعله فيه من التقرب. فهذا -أيضا- ثابت عند كثير من أهل الإثبات، أو أكثرهم، ومنهم من [ ص: 264 ] ينازع [فيه]. وهذا مبسوط في مسألة القرب. أن يكون الرب نفسه تقرب إليه، تقرب من نفسه، ودنو من نفسه،
وعلى هذا التقدير فإن الرب نفسه يكون عند عبده، [خارجا] عما في نفس العبد وقد قال: وقال: "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، أقرب إليها كل يوم شبرا، ولولا ذلك لاحترقت". "من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة".
وهو (يخرج على القولين
فالأولون يقولون: إن الرب يتقرب إلى عبده بنفسه، غير ما يوفق العبد له) من تقربه إلى ربه.
وهؤلاء يقولون: بل هو إذا تقرب إلى ربه أثابه بما يوفقه له [ ص: 265 ] من تقرب آخر يكون الرب به متقربا إليه أكثر مما يقرب إليه، وهؤلاء يمنعون أن يكون الله موصوفا بذاته بحركة أو تقرب أو نحو ذلك. والأولون لا يمنعون ذلك. وقد بسطنا الكلام على هذا في (الأجوبة المصرية) وغير ذلك.
والمقصود هنا: أن قوله: وقوله: "أين أجدك؟ قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، أقرب إليها كل يوم شبرا، ولولا ذلك لاحترقت" ليس ظاهره أن ذات الله [تكون] موجودة في المكان الذي يكون ذلك فيه، بل يكون الله موجودا عنده، أي في نفسه، إذ هذه العندية أقرب إليه من تلك العندية، فإن الظرف المتصل بالإنسان أقرب إليه من الظرف المنفصل عنه، فحمل الكلام عليه أولى، وإذا كان الظرف هو نفسه فقوله: "لو عدته لوجدتني عنده". كقوله: وجدتني في قلبه، ووجدتني في نفسه، ووجدتني حاضرا في قلبه، ووجدتني ثابتا في قلبه، ونحو ذلك من العبارات. "وجدتني عنده"
[ ص: 266 ] ومعلوم أن هذا الخطاب حق على ظاهره، كما تقدم من ثبوت تعلقات الظرف بالمظروف، وإن ذلك ليس بمنزلة قوله: كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب [النور: 39]، بل باقتران ما أضيف [إليه] الظرف في الموضعين اقترن تعلقه بالمظروف، كما لو قيل لبعض الصحابة: وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم (عند أحد. وقال: الآخر: وجدت رسول الله) عند المتبعين لسنته. لاسيما وقد علم المخاطب أنه يمتنع أن يشاهد [الموجود] عند غيره. فقد علم المخاطب بقوله: وعلم "لو عدته لوجدتني عنده" موسى بن عمران: أنهم لا يشهدون الله عيانا في الدنيا.
فلا يظهر لهم من قوله: لوجدتني عند عبدي المريض، وعند المنكسرة قلوبهم من أجلي، إلا ما هو المناسب اللائق بهذا المضاف إليه، دون المضاف إلى غيره.