ومن باب الأمر قول لغلامه ابن عمر نافع وقد رآه يصلي في ثياب ناقصة فقال: (أرأيت لو أرسلتك في حاجة أكنت تذهب هكذا؟ فقال: لا. فقال: فالله أحق [من] تزين له من الناس) وهذا يشبه حديث ومنه الحديث [ ص: 428 ] المرفوع: بهز بن حكيم وهذا المعنى في قوله: "لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول الحق إذا رأى منكرا أو سمعه فيقول الله له: ما منعك أن تقول الحق؟ فيقول: رب خفت الناس. فيقول الله: فإياي كنت أحق أن تخاف"، ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله [العنكبوت: 10].
ومن باب الخبر قوله تعالى: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم [يس: 81]، أمثال بني آدم، فيعيدهم كما قال: أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [الأحقاف: 33] وكما قال تعالى: لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون [غافر: 57] إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [غافر: 59]/.
وأما ظن من ظن كالرازي أن قوله: على أن يخلق مثلهم [ ص: 429 ] المراد به إعادة خلق السموات والأرض، واستدل بذلك في مسألة الإفناء فليس بشيء، والعربية تمنع ذلك ومن ذلك الاستدلال على قدرته على الإعادة بقدرته على الابتداء كقوله: وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [يس: 78 ، 79]. وقوله: إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة [الحج: 5] وقوله: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ثم قال: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ضرب لكم مثلا من أنفسكم [الروم: 27 ، 28]، ومنه قوله تعالى: فأخبر أن له المثل الأعلى، وذلك يدل على ما ذكرناه من أنه له قياس الأعلى لا المساوي، وقد ذكر مثلين: مثلا لنفي الشرك، ومثلا لإعادة الخلق، وذلك في الأصلين الإيمان بالله وباليوم الآخر، أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [القيامة: 36 ، 40]. فبين بما ضرب من المثل الأعلى أن الذي خلق الإنسان على هذه الصفة أولى بأن يكون قادرا على إحيائه، وذلك معلوم بالفطرة [ ص: 430 ] الضرورية العقلية.
ومن باب النهي قوله تعالى: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه [البقرة: 267] يقول: إذا كنتـ [م] في حقوق بعضكم على بعض لا تأخذو[ن] إلا بإغماض، فأنا أحق أن لا تؤدوا في حقي الخبيث، ومنه قول بعض السلف لبنيه في الأضحية: "لا يهدي أحدكم ما يستحي أن يهديه لكريمه؛ فإن الله أكرم الكرماء" ومنه حديث في الناقة التي أهداها، وقد بذل له فيها مال كثير. عمر
وهذا الذي نبهنا عليه من أن الطرق العقلية القياسية في أمر الربوبية لا تكون من باب التمثيل والتشريك الذي تستوي أفراده [ ص: 431 ] وإنما هو من باب قياس الأولى والتنبيه قاعدة شريفة عظيمة القدر، ولهذا خلاصة ما عند المتكلمين من الطرق العقلية هي من هذا الباب؛ فإن كلامهم يشتمل على حق وباطل، مثال ذلك أنهم لما أثبتوا كونه سميعا بصيرا بالطرق العقلية، ذكر أبو عبد الله الرازي هذا المؤسس في كتاب نهاية العقول طرقهم وبسط الكلام في ذلك بسطا كثيرا، ثم أنه زيفها، وذكر عللها، ثم قال: "الفصل الثالث: فيما تعول عليه في هذه المسألة" فذكر طريقة عقلية وطريقة سمعية قال: "والمعتمد طريقان: الأول ما ذكره وهو أنه قال: نحن نعلم بالضرورة أن السميع والبصير أكمل ممن لا يكون سميعا بصيرا، والواحد منا سميع بصير، فلو لم يكن الباري كذلك لزم أن يكون الواحد منا أكمل من الباري، وذلك معلوم الفساد بالضرورة، فوجب القطع بكونه سميعا بصيرا". الإمام الغزالي