الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما القسم الثالث : وهو أن يصدقهما معا فيقول : قد رهنته من كل واحد منكما وأقبضته ، فمعلوم أن ذلك غير ممكن ، إلا أن يتقدم أحدهما على الآخر ، والمتقدم منهما أحق برهنه من المتأخر ، وإذا كان كذلك لم يخل حال الراهن من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يعلم المتقدم منهما أو لا يعلم ، فإن قال كنت علمت المتقدم فيهما فالقول قوله مع يمينه ما لم يكن لواحد من المرتهنين بينة ، وإنما لزمه اليمين قولا واحدا : لأنه لو رجع عنهما وعن الأول منها قبل منه فلذلك لزمته اليمين ، وإذا كانت اليمين لازمة له لم يخل من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يحلف أو ينكل ، فإن حلف فمذهب الشافعي أن الرهن مقسوم وسواء كان الرهن في يده أو [ ص: 227 ] في يد أحد المرتهنين ، لاستوائهما في الدعوى ، وسقوط دعويهما باليمين ، وفي الرهن وجه آخر لبعض أصحابنا أنه لا ينفسح يمين الراهن : لأن يمينه لم تكن لنفي الرهن ، وإنما كانت لنفي العلم فلم يجز أن يبطل بها الرهن ، وإذا لم يبطل الرهن بيمينه كان الحكم فيه كما لو نكلا عن اليمين وجب ردها على المرتهنين ولها ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن ينكلا عنها ، فالرهن حينئذ مفسوخ لنكولهما ، والعبد في يد مالكه غير مرهون .

                                                                                                                                            الحالة الثانية : أن يحلف أحدهما وينكل الآخر ، فيقضى للعبد رهنا في يد الحالف منها دون الناكل .

                                                                                                                                            والحالة الثالثة : أن يحلفا معا ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الرهن مفسوخ لتعارض بينتهما .

                                                                                                                                            والثاني : أنه رهن بينهما لتساويهما ، وهذا حكم الرهن إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر ، فأما إذا علم تقدم أحدهما على الآخر ، قال هو فلان دون فلان ، فلا يخلو حال العبد المرهون من أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون في يد الراهن .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون في يد أحد المرتهنين .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون في يد المرتهنين جميعا .

                                                                                                                                            والرابع : أن يكون في يد أجنبي .

                                                                                                                                            فإن كان في يد الراهن فالقول قوله ، ويكون رهنا لمن أقر له ما لم يكن للآخر بينة ، وهل عليه التمييز أم لا ؟ على ما ذكرنا من القولين ، أحدهما : لا يمين عليه : لأنه لو رجع لم يقبل رجوعه .

                                                                                                                                            والثاني : عليه اليمين زجرا له لينكل عنها فترد على الآخر .

                                                                                                                                            فإن قيل : لا يمين عليه أو عليه اليمين فحلف كان العبد رهنا في يد المقر له بالتقدم دون الآخر ، وإن قيل : عليه اليمين فنكل عنها ردت على الآخر ، فإن نكل عنها كان العبد رهنا بيد المقر له بالتقدم ، وإن حلف ففي الرهن ثلاثة أوجه مضت .

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون الرهن مفسوخا لتعارضهما .

                                                                                                                                            والثاني : يكون بينهما لتساويهما .

                                                                                                                                            [ ص: 228 ] والثالث : يكون رهنا بيد المقر له بالتقدم ، ويغرم للراهن قيمته تكون رهنا بيد الآخر ، وهذا حكم القسم الأول في كون العبد بيد الراهن ، وأما القسم الثاني : وهو أن يكون العبد بيد أحد المرتهنين ، وهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون قد أقر بالتقدم لمن هو في يده ، فالقول قوله ، وهل عليه اليمين أم لا ؟ على قولين ثم على ما مضى .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون قد أقر بالتقدم والسبق لمن ليس العبد بيده ، ففيه قولان منصوصان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن القول قول صاحب اليد دون المرتهن ، ووجهه أن ما في اليد ينافي التداعي ، ألا ترى لو تداعيا عبدا بعبد مبيعا لا رهنا وكان العبد في يد أحدهما فصدقهما على البيع وأقر بالتقدم والسبق لغير صاحب اليد لم يقبل إقراره ، وكان القول قول صاحب اليد كذلك في الرهن ، فعلى هذا يكون القول قوله مع يمينه ، فإن حلف كان العبد رهنا بيده ، وإن نكل كان العبد رهنا بيد المقر له بالتقدم من غير أن ترد عليه اليمين : لأن ارتهانه من صاحب اليد قد بطل بنكوله ومع هذا الإقرار لم يحتج إلى يمين .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو الصحيح أن القول قول الراهن دون صاحب اليد ، ووجهه أن اليد في الرهن ليست بيانا لصحة الدعوى ، ألا ترى لو أنكر الرهن وكان في يده لم تكن يده دليلا على صحة دعواه ، وكذلك إذا اعترف أن رهنه بعد الأول رهنا فاسدا ، كما لو أنكره ولم تكن يده دليلا على صحة دعواه ، ويفارق البيع من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن البيع ينقل الملك ، واليد تدل على الملك ، وليس كذلك الرهن .

                                                                                                                                            والثاني : أن البيع قد أزال ملك البائع فصار مقرا في غير ماله فلم يقبل إقراره على صاحب اليد ، والرهن لم يزل ملك الراهن وكان مقرا في ملكه ، وكان إقراره نافذا على صاحب اليد ، فعلى هذا - القول قول الراهن - وهل عليه اليمين أم لا ؟ على ما ذكرنا من القولين ثم على ما مضى - حلفه ونكوله - ، وهذا حكم القسم الثاني في كون العبد في يد أحد المرتهنين .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو أن يكون العبد في يد المرتهنين جميعا .

                                                                                                                                            فمنصوص الشافعي أن القول قول الراهنين في جميع العبد ، ويكون العبد كله رهنا في يد المقر له ، وهل على الراهن اليمين أم لا ؟ على ما ذكرنا من القولين ، وقال أبو علي بن أبي هريرة : يكون القول قول الراهن في نصف العبد وهو الذي في يد المقر له ، وفي النصف الآخر الذي في يد المرتهن [ ص: 229 ] الآخر على قولين : لأنه أقر به لغيره من هو في يده ، وهذا ليس بصحيح ، وما نص عليه الشافعي أولى : لأنهما قد استويا في اليد وفضل أحدهما بالإقرار فكان الحكم له .

                                                                                                                                            وأما القسم الرابع : وهو أن يكون الرهن في يد أجنبي ، فإنه يسأل عن يده ، فإن كانت نابتة عن الراهن فالحكم فيه كما لو كان في يد الراهن ، وإن كانت نابتة عن أحد المرتهنين كان حكمه كما لو كان في يد المرتهن ، وإن كانت غاصبة لا ينوب بها عن أحد ، فالحكم فيه كما لو كان في يد الراهن : لأنه مستحق اليد بحكم الملك .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية