الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما القسم الثاني وهو أن يصدق أحدهما ويكذب الآخر ، فيقول : رهنته من فلان وأقبضه دون غيره ، فلا يخلو حال المكذب من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون له بينة ، أو لا يكون له بينة .

                                                                                                                                            فإن لم يكن له بينة فالقول قول الراهن المقر من كون العبد رهنا عند المصدق ، وهل عليه اليمين أم لا ؟ على قولين ، المنصوص منهما في هذا الموضع أنه لا يمين عليه : لأن اليمين تجب زجرا للمستحلف ليرجع عنها فيحكم برجوعه ، وهذا الراهن لو رجع عن إقراره لم يحكم برجوعه ، فلم يكن لوجوب اليمين عليه فيه وجه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو مخرج من قوله في الإملاء في الزوجة إذا أنكحها الوليان وصدقت أحد الزوجين أن عليها اليمين في أحد القولين ، وفي الراهن إذا أقر بجناية عبده المرهون وقبل قوله أن عليه اليمين وإن لم يقبل رجوعه ، ووجه وجوب اليمين عليه أنه قد يستفاد بها إن نكل أن ترد على المكذب فيستحق بها إن حلف ما سنذكره ، وإذا ثبت هذان القولان في وجوب اليمين عليه ، فإن قلنا : لا يمين عليه أو عليه اليمين فحلف كان العبد رهنا في يد المصدق ، وإن قلنا عليه اليمين فنكل عنها لم يخل حاله من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن ينكل عن اليمين ويعترف للمكذب ، أو ينكل عنها ولا يعترف للمكذب ، فإن نكل عنها واعترف للمكذب لم ترد اليمين على المكذب لحدوث الاعتراف له ، ويصير الراهن بهذا الاعتراف راجعا عن الأول مقرا للثاني فلم يقبل رجوعه عن الأول ، وكان العبد رهنا بيده لما تقدم من إقراره ، وهل يغرم قيمة الرهن للثاني أم لا ؟ على وجهين مخرجين من [ ص: 226 ] اختلاف قوليه فيمن أقر في دار بيده لزيد ثم أقر بها لعمرو ، وهل يغرم قيمتها لعمرو أم لا ؟ على قولين خرج منهما هذان الوجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : عليه غرم قيمة العبد يكون رهنا بيد الثاني لتفويته الرهن عليه بإقراره المتقدم .

                                                                                                                                            والوجه الثاني وهو أصح في هذا الموضع : أنه لا غرم عليه : لأنه قد أقر بما لزمه ولم يتلف عليه مالا فيلزمه غرمه ، وهذا إن نكل واعترف ، فأما إن نكل ولم يعترف فإن اليمين ترد على المكذب ، فإن نكل عنها كان العبد رهنا بيد المصدق ولا شيء للمكذب ، وإن حلف المكذب ردت اليمين عليه وكانت يمينه بعد نكول الراهن عنها بمنزلة إقراره للأول فاستويا ، وإذا كان كذلك فقد حكاهم ابن أبي هريرة ، فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن الرهن منسوخ ، لأن جميعه لا يصح أن يكون مرهونا عند كل واحد منهما .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن العبد يجعل رهنا بينهما نصفين ، لأنهما فيه متساويان .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن العبد رهن للأول لما تقدم من إقراره ، وعليه أن يغرم قيمته وتكون رهنا بيد الثاني لأجل اعترافه ، فهذا الحكم فيه إذا لم يكن للمكذب بينة ، فأما إن كانت للمكذب بينة تشهد له فلا يخلو حال المصدق من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون له بينة تعارض بينة المكذب أو لا تكون له بينة ، فإن لم تكن له بينة حكم للمكذب ببينته ، وكان العبد رهنا بيد المكذب دون المصدق ، لأن البينة أولى من الإقرار ، وإن كان للمصدق بينة سمعت لا على الراهن : لأنه مقر والمقر لا تسمع عليه البينة بإقراره ، ولكن تسمع في معارضة بينة المكذب ، فإذا تعارضت قوى المصدق بالإقرار له فحكم له لقوله ، وسقطت البينتان لتعارضهما ، وكان العبد رهنا بيد المصدق ، وهذا حكم القسم الثاني في تصديق أحدهما ويكذب الآخر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية