الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو رهنه دارين فقبض إحداهما ولم يقبض [ ص: 43 ] الأخرى كانت المقبوضة رهنا دون الأخرى بجميع الحق " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : إذا رهنه دارين بألف فإن أقبضه إياهما كانتا رهنا معا وكل واحدة منهما رهنا بجميع الألف ، ولو أقبضه إحداهما دون الأخرى كانت المقبوضة رهنا بجميع الألف .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة إن أقبضه الدارين كانتا رهنا بجميع الألف ، وكل واحدة منهما رهن بحصتها من الألف ، وإن أقبضه إحداهما دون الأخرى كانت المقبوضة رهنا بحصتها من الألف ، ولا تكون رهنا بجميع الألف استدلالا بشيئين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الرهن عقد على عين في مقابلة عوض كالبيع ، فلما كان لو باعه دارين بألف كانت كل واحدة منهما مبيعة بحصتهما من الألف ، ولا تكون مبيعة بجميع الألف فكذلك الرهن .

                                                                                                                                            والثاني : أن الرهن وثيقة كالضمان ، ثم ثبت أن رجلين لو ضمنا ألفا عن رجل كانت بينهما ، ولا تكون الألف على كل واحد منهما ، كذلك الرهن إذا رهنه دارين بألف كانت الألف مقسطة عليهما ولا تكون جميع الألف في واحدة منهما .

                                                                                                                                            والدلالة عليه شيئان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لما كان جميع الرهن محتبسا بجميع الدين وبكل جزء من أجزائه حتى لو رهنه على ألف فقضاه ألفا إلا درهما كان جميع الرهن محتبسا بالدرهم الباقي ، دل على أن الرهن كله وكل جزء من أجزائه رهن في الحق كله وفي كل جزء من أجزائه .

                                                                                                                                            فإن قيل : هذا فاسد بالمبيع يتقسط الثمن على أجزائه ، ولو قبض البائع بعض ثمنه كان له حبس جميعه بالباقي ؟ قلنا : عنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن على البائع أن يسلم من المبيع بقسط ما قبض ويحتبس منه بقسط ما بقي حتى لو باع كرين من طعام بألف وقبض منها نصفها لزمه تسليم أحد الكرين ، وكان له احتباس الكر الباقي فعلى هذا سقط السؤال .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لا يلزمه تسليم شيء من المبيع إلا بعد قبض جميع الثمن ، ثم هذا السؤال لا يلزم : لأن في المبيع حقين : حق استحقاق ، وهذا متقسط وحق استيثاق وهذا غير متقسط كالرهن ، وهو إنما يحتبسه بحق الاستيثاق لا بحق الاستحقاق فصار من هذا الوجه كالرهن .

                                                                                                                                            والدلالة الثانية : أن الرهن وثيقة في الحق كالشهادة والضمان ثم ثبت أن الشهادة وذمة [ ص: 44 ] الضامن وثيقة في الحق كله وفي كل جزء من أجزائه فوجب أن يكون الرهن وثيقة في الحق كله وفي كل جزء من أجزائه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عما ذكره من المبيع ، فالفرق بينهما : أن الثمن في المبيع عوض عنه والعوض عن جميع الشيء لا يكون عوضا عن بعضه وليس كذلك الرهن لأنه ليس بعوض وإنما هو وثيقة ، والوثيقة في الشيء يجوز أن تكون وثيقة في بعضه .

                                                                                                                                            وأما ما ذكروه من الضامنين فغير صحيح ، لأن الضامنين هما كالعاقدين فلذلك تبعض ، وكذلك الرهن إذا كان في عقدين كان متبعضا كالضامنين .

                                                                                                                                            وأما العقد الواحد فهو كالضامن الواحد .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أن المقبوضة من الدارين تكون رهنا بجميع الحق ، فإن لم يكن ذلك مشروطا في بيع فلا خيار للمرتهن ، وإن كان مشروطا في بيع فالمرتهن البائع بالخيار بين أن يقيم على المبيع بارتهان إحدى الدارين وبين أن يفسخ البيع ، لأنه شرط ارتهان دارين فلم يحصل له إلا ارتهان إحداهما .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية