وقيل : استفهمت عن الكيفية ، كما سأل زكريا عن الكيفية ، تقديره : هل يكون ذلك على جري العادة بتقدم وطء ؟ أم بأمر من قدرة الله ؟ . وقال الأنباري : لما خاطبها جبريل ظنته آدميا يريد بها سوءا ، ولهذا قالت : ( أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله ; لأنها لم تعلم أنه ملك ، فقالت : ( رب أنى يكون لي ولد ) ؟
ومن ذهب إلى أن قولها : رب ، وقول زكريا : رب ، إنما هو نداء لجبريل لما بشرهما ، ومعناه : يا سيدي فقد أبعد . وقال : هو من بدع التفاسير ، ويكون : يحتمل أن تكون الناقصة والتامة ، كما سبق في قصة الزمخشري زكريا . ولم يمسسني بشر : جملة حالية ، والمسيس هنا كناية عن الوطء ، وهذا نفي عام أن يكون باشرها أحد بأي نوع كان من تزوج أو غيره ، والبشر : يطلق على الواحد والجمع ، والمراد هنا النفي العام ، وسمي بشرا لظهور بشرته وهو جلده ، وبشرت الأديم قشرت وجهه ، وأبشرت الأرض أخرجت نباتها ، وتباشير الصبح أول ما يبدو من نوره .
( قال كذلك الله يخلق ما يشاء ) تقدم الكلام في نظيرها في قصة زكريا ، إلا أن في قصته ( يفعل ما يشاء ) من حيث إن أمر زكريا داخل في الإمكان العادي الذي يتعارف ، وإن قل ، وفي قصة مريم : يخلق ، لأنه لا يتعارف مثله ، وهو وجود ولد من غير والد ، فهو إيجاد واختراع من غير سبب عادي ، فلذلك جاء بلفظ : يخلق ، الدال على هذا المعنى . وقد ألغز بعض العرب المستشهد بكلامها فقال :
[ ص: 463 ]
ألا رب مولود وليس له أب وذي ولد لم يلده أبوان
يريد : عيسى و آدم . ( إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة : لغة ، وتفسيرا ، وقراءة ، وإعرابا ، فأغنى ذلك عن إعادته .
( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) الكتاب هنا مصدر ، أي : يعلمه الخط باليد ، قاله ، ابن عباس وجماعة . وقيل : الكتاب هو كتاب غير معلوم ، علمه الله وابن جريج عيسى مع التوراة والإنجيل ، وقيل : كتب الله المنزلة . والألف واللام للجنس . وقيل : هو التوراة والإنجيل . قالوا : وتكون الواو في : والتوراة ، مقحمة ، والكتاب عبارة عن المكتوب ، وتعليمه إياها ، قيل : بالإلهام ، وقيل : بالوحي ، وقيل : بالتوفيق والهداية للتعلم . والحكمة تقدم تفسيرها ، وفسرت هنا بسنن الأنبياء ، وبما شرعه من الدين ، وبالنبوة ، وبالصواب في القول والعمل ، وبالعقل ، وبأنواع العلم ، وبمجموع ما تقدم أقوال سبعة .
روي أن عيسى كان يستظهر التوراة ، ويقال : لم يحفظها عن ظهر قلب غير موسى ، و يوشع ، وعزير ، و عيسى . وذكر الإنجيل لمريم وهو لم ينزل بعد ، لا كان كتابا مذكورا عند الأنبياء والعلماء ، وأنه سينزل .
وقرأ نافع ، وعاصم ، ويعقوب ، وسهل : ويعلمه ، بالياء ، وقرأ الباقون : بالنون ، وعلى كلتا القراءتين هو معطوف على الجملة المقولة ، وذلك أن قوله : قال كذلك ، الضمير في : قال ، عائد على الرب ، والجملة بعده هي المقولة ، وسواء كان لفظ الله مبتدأ ، وخبره فيما قبله لزم مبتدأ وخبره يخلق على ما مر إعرابه في : ( قال كذلك الله يفعل ما يشاء ) فيكون هذا من المقول لمريم ، أم على سبيل الاغتباط والتبشير بهذا الولد الذي يوجده الله منها ، ويجوز أن يكون معطوفا على : يخلق ، سواء كانت خبرا عن الله أم تفسيرا لما قبلها ، إذا أعربت لفظ " الله " مبتدأ ، وما قبله الخبر ، وهذا ظاهر كله على قراءة الياء .
وأما على قراءة النون ، فيكون من باب الالتفات ، خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم لما في ذلك من الفخامة . وقال أبو علي : وجوزه ، وغيره عطف : ويعلمه ، على : يبشرك ، وهذا بعيد جدا لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه . وأجاز الزمخشري ابن عطية ، وغيره أن يكون معطوفا على : ويكلم ، وأجاز أن يكون معطوفا على : وجيها ، فيكون على هذين القولين في موضع نصب على الحال . وفيما أجازه الزمخشري أبو علي ، في موضع رفع ; لأنه معطوف على خبر " إن " ، وهذان القولان بعيدان أيضا ; لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا يقع مثله في لسان العرب . والزمخشري
وقال بعضهم : ونعلمه ؛ بالنون ؛ حمله على قوله ( نوحيه إليك ) فإن عني بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير ، وإن عني بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح ، وقال : أو هو كلام مبتدأ ؛ يعني قوله : ونعلمه ، وذلك أنه أجاز أن يكون معطوفا على يبشرك ، وعلى " وجيها " ، وعلى " يخلق " ، ثم قال أو هو كلام مبتدأ يعني : أنه لا يكون معطوفا على شيء من هذه التي ذكرت ، فإن عني أنه استئناف إخبار عن الله ، أو من الله ، على اختلاف القراءتين ، فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفا على شيء قبله ، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يدعي زيادة الواو في : ويعلمه ، فحينئذ يصح أن يكون ابتداء كلام ، وإن عني أنه ليس معطوفا على ما ذكر ، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه ، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام حتى يكون المعطوف كذلك . وقال الزمخشري : قراءة الياء عطف على قوله ( الطبري يخلق ما يشاء ) وقراءة النون عطف على قوله ( نوحيه إليك ) قال ابن عطية : وهذا القول الذي [ ص: 464 ] قاله في الوجهين مفسد للمعنى ، انتهى . ولم يبين ابن عطية جهة إفساد المعنى ، أما قراءة النون فظاهر فساد عطفه على : نوحيه ، من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان العرب لبعد الفصل المفرط ، وتعقيد التركيب ، وتنافر الكلام . وأما من حيث المعنى ، فإن المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه ، فيصير المعنى بقوله ذلك من أنباء الغيب أي : إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمران ، وولادتها لمريم ، وكفالة زكريا ، وقصته في ولادة يحيى له ، وتبشير الملائكة لمريم بالاصطفاء والتطهير ، كل ذلك من أخبار الغيب ، نعلمه ، أي : نعلم عيسى الكتاب ، فهذا كلام لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله . وأما قراءة الياء ، وعطف : ويعلمه ، على : يخلق ، فليست مفسدة للمعنى ، بل هو أولى ، وأصح ما يحمل عليه عطف : ويعلمه ، لقرب لفظه ، وصحة معناه . وقد ذكرنا جوازه قبل ، ويكون الله قد أخبر مريم بأنه تعالى يخلق الأشياء الغريبة التي لم تجر بها عادة ، مثل ما خلق لك ولدا من غير أب ، وأنه تعالى يعلم هذا الولد الذي يخلقه لك ما لم يعلمه قبله من الكتاب ، والحكمة ، والتوراة والإنجيل ، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشير لها بهذا الولد ، وإظهار بركته ، وأنه ليس مشبها أولاد الناس من بني إسرائيل ، بل هو مخالف لهم في أصل النشأة ، وفيما يعلمه تعالى من العلم ، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف : ويعلمه .