لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم
وقال بعض المولدين :
يشبه بالهلال وذاك نقص قلامة ظفره شبه الهلال
: إلقاء المعنى في النفس في خفاء ، فقد يكون بالملك للرسل ، وبالإلهام كقوله : ( الوحي وأوحى ربك إلى النحل ) وبالإشارة ، كقوله .
لأوحت إلينا والأنامل رسلها
( فأوحى إليهم أن سبحوا ) وبالكتابة : قال زهير :
أتى العجم والآفاق منه قصائد بقين بقاء الوحي في الحجر الأصم
والوحي : الكتاب قال :
فمدافع الريان عري رسمها خلقا كما ضمن الوحي سلامها
وقيل : الوحي جمع وحي ، وأما الفعل ، فيقال أوحى ، ووحى .
المسيح : عبراني معرب ، وأصله بالعبراني مشيحا ، بالشين ، عرب بالسين ، كما غيرت في موشى ، فقيل : موسى ، قاله أبو عبيد ، وقال : ومعناه المبارك ، كقوله ( الزمخشري وجعلني مباركا أينما كنت ) وهو من الألقاب المشرفة ، كالصديق ، والفاروق ، انتهى . وقيل : المسيح عربي ، واختلف : أهو مشتق من السياحة فيكون وزنه مفعلا ؟ أو من المسيح فيكون وزنه فعيلا ؟ وهل يكون بمعنى مفعول ، أو فاعل خلاف ، ويتبين في التفسير لم سمي بذلك .
الكهل : الذي بلغ سن الكهولة ، وآخرها ستون وقيل : خمسون ، وقيل : اثنان وخمسون ، ثم يدخل [ ص: 455 ] سن الشيخوخة .
واختلف في أولها فقيل : ثلاثون ، وقيل : اثنان وثلاثون ، وقيل : ثلاثة وثلاثون . وقيل : خمسة وثلاثون ، وقيل : أربعون عاما .
وهو من اكتهل النبات إذا قوي وعلا ، ومنه : الكاهل ، وقال ابن فارس : اكتهل الرجل وخطه الشيب ، من قولهم : اكتهلت الروضة إذا عمها النور ، ويقال للمرأة : كهلة انتهى .
ونقل عن الأئمة في ترتيب سن المولود وتنقل أحواله : أنه في الرحم : جنين ، فإذا ولد : فوليد ، فإذا لم يستتم الأسبوع : فصديع ، وإذا دام يرضع : فرضيع ، وإذا فطم : ففطيم ، وإذا لم يرضع : فجحوش ، فإذا دب ونما : فدارج ، فإذا سقطت رواضعه : فمثغور ، فإذا نبتت بعد السقوط : فمتغر ، بالتاء ، والثاء . فإذا كان يجاوز العشر : فمترعرع وناشئ ، فإذا كان يبلغ الحلم : فيافع ، ومراهق ، فإذا احتلم : فمحزور ، وهو في جميع هذه الأحوال : غلام . فإذا اخضر شاربه وسال عذاره : فباقل ، فإذا صار ذاقنا : ففتى ، وشارخ ، فإذا كملت لحيته : فمجتمع ، ثم ما دام بين الثلاثين ، والأربعين : فهو شاب ، ثم هو كهل : إلى أن يستوفي الستين . هذا هو المشهور عند أهل اللغة .
الطين : معروف ، ويقال طانه الله على كذا ، وطامه بإبدال النون ميما ، جبله وخلقه على كذا ، ومطين لقب لمحدث معروف . الهيئة : الشكل والصورة ، وأصله مصدر ، يقال : هاء الشيء يهاء هيأ ، وهيئة إذا ترتب واستقر على حال ما ، وتعديه بالتضعيف ، فتقول : هيأته ، قال ( ويهيئ لكم ) .
النفخ : معروف . الإبراء : إزالة العلة والمرض ، يقال : برئ الرجل وبرأ من المرض ، وأما من الذنب ، ومن الدين فبريء . الأكمه : العمى يولد به الإنسان وقد يعرض ، يقال : كمه يكمه كمها : فهو أكمه . وكمهتها أنا أعميتها قال سويد : .
كمهت عيناه حتى ابيضتا
وقال رؤبة .
فارتد عنها كارتداد الأكمه
البرص : داء معروف وهو بياض يعتري الجلد ، يقال منه : برص فهو أبرص ، ويسمى القمر أبرص لبياضه ، والوزغ سام أبرص للبياض الذي يعلو جلده . ذخر : الشيء يذخره خبأه ، والذخر المذخور قال :
لها أشارير من لحم تثمره من الثعالي وذخر من أرانبها
( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك ) لما فرغ من قصة زكريا ، وكان قد استطرد من قصة مريم إليها ، رجع إلى قصة مريم ، وهكذا عادة أساليب العرب ، متى ذكروا شيئا استطردوا منه إلى غيره ، ثم عادوا إلى الأول إن كان لهم غرض في العود إليه ، والمقصود تبرئة مريم عن ما رمتها به اليهود ، وإظهار استحالة أن يكون عيسى إلها ، فذكر ولادته . وظاهر قوله " الملائكة " أنه جمع من الملائكة ، وقيل : المراد جبريل ومن معه من الملائكة ، لأنه نقل أنه : لا ينزل لأمر إلا ومعه جماعة من الملائكة ، وقيل : جبريل وحده .
وقرأ ، ابن مسعود وعبد الله بن عمرو : وإذ قال الملائكة ، وفي نداء الملائكة لها باسمها تأنيس لها ، وتوطئة لما تلقيه إليها ، ومعمول القول الجملة المؤكدة : بـ " إن " .
والظاهر : مشافهة الملائكة لها بالقول . قال : روي أنهم كلموها شفاها معجزة الزمخشري لزكريا ، أو إرهاصا لنبوة عيسى انتهى . يعني بالإرهاص التقدم ، والدلالة على نبوة عيسى ، وهذا مذهب المعتزلة ; لأن الخارق للعادة عندهم لا يكون على يد غير نبي إلا إن كان في وقته نبي ، أو انتظر بعث نبي ، فيكون ذلك الخارق مقدمة بين يدي بعثة ذلك النبي .
( وطهرك ) التطهير هنا من الحيض ، قاله ، قال ابن عباس : وكانت السدي مريم لا تحيض . وقال قوم : من الحيض والنفاس ، وروي عن : من مس الرجال ، وعن ابن عباس مجاهد : عما يصم النساء في خلق وخلق ودين ، وعنه أيضا : من الريب والشكوك .
( واصطفاك على نساء العالمين ) قيل : كرر على سبيل التوكيد والمبالغة ، وقيل : لا توكيد إذ المراد بالاصطفاء الأول اصطفاء الولاية ، وبالثاني اصطفاء ولادة عيسى ; لأنها بولادته حصل لها زيادة اصطفاء وعلو منزلة على الأكفاء ، وقيل : الاصطفاء الأول : اختيار ، وعموم يدخل فيه صوالح من النساء ، والثاني : اصطفاء على نساء العالمين .
[ ص: 456 ] وقيل : لما أطلق الاصطفاء الأول ، بين بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال ، وقال : اصطفاك أولا حين تقبلك من أمك ورباك ، واختصك بالكرامة السنية ، وطهرك مما يستقذر من الأفعال ، ومما قذفك به اليهود ، واصطفاك آخرا على نساء العالمين بأن وهب لك الزمخشري عيسى من غير أب ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء انتهى . وهو كلام حسن ، ويكون : نساء العالمين ، على قوله عاما ، ويكون الأمر الذي اصطفيت به من أجله هو اختصاصها بولادة عيسى ، وقيل : هو خدمة البيت ، وقيل : التحرير ، ولم تحرر أنثى غير مريم ، وقيل : سلامتها من نخس الشيطان ، وقيل : نبوتها ، فإنه قيل إنها نبئت ، وكانت الملائكة تظهر لها وتخاطبها برسالة الله لها ، وكان زكريا يسمع ذلك ، فيقول : إن لمريم لشأنا . والجمهور على أنه لم ينبأ امرأة ، فالمعنى الذي اصطفيت لأجله مريم على نساء العالمين ، هو شيء يخصها ، فهو اصطفاء خاص إذ سببه خاص ، وقيل : نساء العالمين ، خاص بنساء عالم زمانها ، فيكون الاصطفاء إذ ذاك عاما ، قاله . ابن جريج
وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " مريم بنت عمران خير نساء الجنة " . وروي : " خير نسائها مريم بنت عمران " وروي : " مريم بنت عمران ، و آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، و ، و خديجة بنت خويلد فاطمة بنت محمد " وروي : " خير نساء العالمين أربع : فضلت على نساء أمتي كما فضلت خديجة مريم على نساء العالمين " وروي : أنها من الكاملات من النساء . وقد روي في الأحاديث الصحاح تفضيل مريم على نساء العالمين ، فذهب جماعة من المفسرين إلى ظاهر هذا التفضيل ، قال بعض شيوخنا : والذي رأيت ممن اجتمعت عليه من العلماء ، أنهم ينقلون عن أشياخهم : أن فاطمة أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات ; لأنها بضعة من رسول الله .
( يامريم اقنتي لربك ) لا خلاف بين المفسرين أن المنادي لها بذلك الملائكة الذين تقدم ذكرهم على الخلاف المذكور ، والمراد بالقنوت هنا : العبادة ، قاله الحسن ، وقتادة . أو : طول القيام في الصلاة ، قاله مجاهد ، ، وابن جريج والربيع ، أو : الطاعة ، أو : الإخلاص ، قاله ابن جبير . وفي قوله : لربك ، إشارة إلى أن تفرده بالعبادة وتخصصه بها ، والجمهور على ما قاله مجاهد ، وهو المناسب في المعنى لقوله : ( واسجدي واركعي ) وروى مجاهد أنها : لما خوطبت بهذا قامت حتى ورمت قدماها . وقال : قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها . وروي : أن الطير كانت تنزل على رأسها تظنها جمادا لسكونها في طول قيامها . الأوزاعي
( واسجدي واركعي مع الراكعين ) أمرتها الملائكة بفعل ثلاثة أشياء من هيئات الصلاة ، فإن أريد ظاهر الهيئات فهي معطوفة بالواو ، والواو لا ترتب ، فلا يسأل لم قدم السجود على الركوع إلا من جهة علم البيان . والجواب : أن السجود لما كانت الهيئة التي هي أقرب ما يكون العبد فيها إلى الله قدم ، وإن كانت متأخرا في الفعل على الركوع ، فيكون إذ ذاك التقديم بالشرف . وقيل : كان السجود مقدما على الركوع في شرع زكريا ، وغيره منهم ، ذكره أبو موسى الدمشقي . وقيل : في كل الملل إلا ملة الإسلام ، فجاء التقديم من حيث الوقوع في ذلك الشرع ، فيكون إذ ذاك التقديم زمانيا من حيث الوقوع ، وهذا التقديم أحد الأنواع الخمسة التي ذكرها البيانيون ، وكذلك التقديم الذي قبله ، وتوارد ، الزمخشري وابن عطية على أنه لا يراد ظاهر الهيئات .
فقال : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة وأركانها ، ثم قيل لها ( الزمخشري واركعي مع الراكعين ) المعنى : ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة ، أي : وانظمي نفسك في جملة المصلين ، وكوني معهم وفي عدادهم ، ولا تكوني في عداد غيرهم . وقال ابن عطية : القول عندي في ذلك أن مريم أمرت بفعلين ومعلمين [ ص: 457 ] من معالم الصلاة ، وهما : طول القيام والسجود ، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة . وهذان يختصان بصلاتها منفردة ، وإلا فمن يصلي وراء إمام لا يقال له : أطل قيامك ، ثم أمرت بعد بالصلاة في الجماعة ، فقيل لها : ( واركعي مع الراكعين ) وقصد هنا معلم آخر من معالم الصلاة لئلا يتكرر لفظ . ولم يرد بالآية السجود والركوع الذي هو منتظم في ركعة واحدة انتهى كلامه . ولا ضرورة بنا تخرج اللفظ عن ظاهره .
وقد ذكرنا مناسبة لتقديم السجود على الركوع ، وقد استشكل ابن عطية هذا ، فقال : وهذه الآية أشد إشكالا من قولنا : قام زيد وعمرو ، لأن قيام زيد وعمرو ، ليس له رتبة معلومة ، وقد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك في هذه الآية ؟ انتهى . وهذا كلام من لم يمعن النظر في كتاب ، فإن سيبويه ذكر أن الواو يكون معها في العطف المعية ، وتقديم السابق ، وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء ، فلا يترجح أحد الاحتمالات على الآخر ، ولا التفات لقول بعض أصحابنا المتأخرين في ترجيح المعية على تقديم السابق ، وعلى تقديم اللاحق ، ولا في ترجيح تقديم السابق على تقديم اللاحق . وذكر سيبويه توجيها آخر في تأخير الركوع عن السجود ، فقال : ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ، ولا يركع ، وفيه من يركع ، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ، ولا تكون مع من لا يركع انتهى . فكأنه قيل : لا تقتصري على القيام والسجود ، بل أضيفي إلى ذلك الركوع . الزمخشري
وقيل : المراد : باقنتي : أطيعي ، وباسجدي : صلي ، ومنه ( وأدبار السجود ) أي : الصلوات ، وبـ " اركعي " : اشكري مع الشاكرين ، ومنه : ( وخر راكعا وأناب ) ويقوي هذا المعنى ، ويرد على من زعم أنه لم تشرع صلاة إلا والركوع فيها مقدم على السجود ، فإن المشاهد من صلاة اليهود والنصارى خلوها من الركوع ، ويبعد أن يراد بالركوع الانحناء الذي يتوصل منه إلى السجود ، ويحتمل أن يكون ترك الركوع مما غيرته اليهود والنصارى من معالم شريعتهم . ومع : في قوله : مع الراكعين ، تقتضي الصحبة والاجتماع في إيقاع الركوع مع من يركع ، فتكون مأمورة بالصلاة في جماعة ، ويحتمل أن يتجوز في : مع ، فتكون للموافقة للفعل فقط دون اجتماع ، أي : افعلي كفعلهم ، وإن لم توقعي الصلاة معهم ، فإنها كانت تصلي في محرابها . وجاء : مع الراكعين ، دون الراكعات ; لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب ، ولمناسبة أواخر الآيات قبل وبعد ، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا إنها مأمورة بصلاة الجماعة .
قال الماتريدي : ولم تكره لها الصلاة في الجماعة ، وإن كانت شابة ، لأنهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم ، ولذلك اختصوا في ضمها وإمساكها انتهى .
( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ) الإشارة إلى ما تقدم من قصص امرأة عمران ، وبنتها مريم ، و زكريا ، و يحيى ، والمعنى : أن هذه القصص وصولها إليك من جهة الوحي إذ لست ممن دارس الكتب ، ولا صحب من يعرف ذلك ، وهو من قوم أميين ، فمدرك ذلك إنما هو الوحي من عند الله ، كما قال في الآية الأخرى ، وقد ذكر قصة أبعد الناس زمانا من زمانه - صلى الله عليه وسلم ، وهو نوح - عليه السلام ، واستوفاها له في سورة هود أكثر مما استوفاها في غيرها ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) وفي هذا دليل على نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أخبر بغيوب لم يطلع عليها إلا من شاهدها ، أو : من قرأها في الكتب السابقة ، أو : من أوحى الله إليه بها ، وقد انتفى العيان والقراءة ، فتعين الثالث ، وهو الوحي من الله تعالى .
والكاف في : ذلك ، وإليك : خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والأحسن في الإعراب أن يكون : ذلك ، مبتدأ و " من أنباء الغيب " : خبره . وأن يكون : نوحيه ، جملة مستأنفة ، ويكون الضمير في : نوحيه ، عائدا على الغيب ، أي : شأننا أننا نوحي إليك الغيب [ ص: 458 ] ونعلمك به ، ولذلك أتى بالمضارع ، ويكون أكثر فائدة من عوده على : ذلك ، إذ يشتمل ما تقدم من القصص ، وغيرها التي يوحيها إليه في المستقبل ، إذ يصير نظير : زيد يطعم المساكين ، فيكون إخبارا بالحالة الدائمة . والمستعمل في هذا المعنى إنما هو المضارع ، وإذ يلزم من عوده على : ذلك ، أن يكون : نوحيه ، بمعنى : أوحيناه إليك ، لأن الوحي به قد وقع وانفصل ، فيكون أبعد في المجاز منه إذا كان شاملا لهذه القصص ، وغيرها مما سيأتي ، وجوزوا أن يكون : نوحيه ، خبرا : لـ " ذلك " و " من أنباء " : حال من الهاء ، في : نوحيه ، أو متعلقا : بـ " نوحيه " .
( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ) هذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى ، والمعلم به قصتان : قصة مريم ، وقصة زكريا . فنبه على قصة مريم ، إذ هي المقصودة بالإخبار أولا ، وإنما جاءت قصة زكريا على سبيل الاستطراد ، ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من يكفل ، فما خلت من تنبيه على قصة ومعنى : ( وما كنت لديهم ) أي : ما كنت معهم بحضرتهم إذ يلقون أقلامهم . ونفي المشاهدة ، وإن كانت منتفية بالعلم ، ولم تنتف القراءة والتلقي ، من حفاظ الأنباء على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، وقد علموا أنه ليس ممن يقرأ ، ولا ممن ينقل عن الحفاظ للأخبار ، فتعين أن يكون علمه بذلك بوحي من الله تعالى إليه ، ونظيره في قصة موسى : ( وما كنت بجانب الغربي ) ( وما كنت بجانب الطور ) وفي قصة يوسف ( وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم ) .
والضمير ، في : لديهم ، عائد على غير مذكور ، بل على ما دل عليه المعنى ، أي : وما كنت لدى المتنازعين ، كقوله : ( فأثرن به نقعا ) أي : بالمكان . والعامل في : إذ العامل في : لديهم . وقال أبو علي الفارسي : العامل في : إذ ، " كنت " انتهى . ولا يناسب ذلك مذهبه في كان الناقصة ; لأنه يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث ، وتجردت للزمان وما سبيله هكذا ، فكيف يعمل في ظرف ؟ لأن الظرف وعاء للحدث ، ولا حدث فلا يعمل فيه ، والمضارع بعد : إذ في معنى الماضي ، أي : إذ ألقوا أقلامهم للاستهام على مريم ، والظاهر أنها الأقلام التي للكتابة . قيل : كانوا يكتبون بها التوراة ، فاختاروها للقرعة تبركا بها . وقيل : الأقلام هنا الأزلام ، وهي : القداح ، ومعنى الإلقاء هنا الرمي والطرح ، ولم يذكر في الآية ما الذي ألقوها فيه ، ولا كيفية حال [ ص: 459 ] الإلقاء ، وكيف خرج قلم زكريا . وقد ذكرنا فيما سبق شيئا من ذلك عن المفسرين ، والله أعلم بالصحيح منها . وقال أبو مسلم : كانت الأمم يكتبون أسماءهم على سهام عند المنازعة ، فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وهو شبيه بأمر القداح التي يتقاسم بها الجزور .
وارتفع ( أيهم يكفل مريم ) على الابتداء ، والخبر ، وهو في موضع نصب إما على الحكاية بقول محذوف ، أي : يقولون أيهم يكفل ، ودل على المحذوف : ( يلقون أقلامهم ) وقد استدل بهذه الآية على إثبات القرعة ، وهي مسألة فقهية تذكر في علم الفقه .