وتكون الألف واللام في " الذكر " ، للعهد فيكون مقصودها ترجيح هذه الأنثى التي هي موهوبة الله على ما كان قد رجت من أنه يكون ذكرا ، ويحتمل أن يكون مقصودها ، أنه ليس كالأنثى في الفضل والدرجة والمزية ؛ لأن الذكر يصلح للتحرير ، والاستمرار على خدمة موضع العبادة ، ولأنه أقوى على الخدمة ، ولا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ولا تهمة . قال ابن عطية : كالأنثى ، في امتناع نذره إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان ؟ قاله قتادة ، والربيع ، والسدي ، وعكرمة ، وغيرهم . وبدأت بذكر الأهم في نفسها ، وإلا فسياق الكلام أن تقول : وليست الأنثى كالذكر ، فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها ، وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد انتهى . وعلى هذا الاحتمال تكون الألف واللام في : " الذكر " ، للجنس . وقرأ باقي السبعة : بما وضعت ، بتاء التأنيث الساكنة ، على أنه إخبار من الله بأنه أعلم بالذي وضعته . أي : بحاله ، وما يؤول إليه أمر هذه الأنثى ، فإن قولها : وضعتها أنثى ، يدل على أنها لم تعلم من حالها إلا على هذا القدر من كون هذه النسمة جاءت أنثى لا تصلح للتحرير ، فأخبر تعالى أنه أعلم بهذه الموضوعة ، فأتى بصيغة التفضيل المقتضية للعلم بتفاصيل الأحوال ، وذلك على سبيل التعظيم لهذه الموضوعة ، والإعلام بما علق بها وبابنها من عظيم الأمور ، إذ جعلها وابنها آية للعالمين . ووالدتها جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا . وقرأ : بما وضعت ، بكسر تاء الخطاب ، خاطبها الله بذلك أي : إنك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة ، وما علمه الله تعالى من عظم شأنها وعلو قدرها . وما : موصولة بمعنى الذي أو التي ، وأتى بلفظ ما ، كما في قوله : ( ابن عباس نذرت لك ما في بطني ) والعائد عليها محذوف على كل قراءة . ( وإني سميتها مريم ) مريم في لغتهم معناه : العابدة ، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير ، والتقرب إلى الله - تعالى - ، والتضرع إليه بأن يكون فعلها مطابقا لاسمها ، وأن تصدق فيها ظنها بها . ألا ترى إلى إعاذتها بالله ، وإعاذة ذريتها من الشيطان ؟ وخاطبت الله بهذا الكلام لترتب الاستعاذة عليه ، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران كان قد مات ، كما نقل أنه مات وهي حامل ، على أنه يحتمل من حيث هي أنثى أن تستبد الأم [ ص: 440 ] بالتسمية لكراهة الرجال البنات ، وفي الآية تسمية الطفل قرب الولادة ، وفي الحديث : " " . وفي الحديث أنه : " ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم " . يعق عن المولود في السابع ويسمى
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها من كلامها ، وهي كلها داخلة تحت القول على قراءة من قرأ : بما وضعت ، بضم التاء . وأما من قرأ : بما وضعت ، بسكون التاء ، أو بالكسر . فقال : هي معطوفة على : إني وضعتها أنثى ، وما بينهما جملتان معترضان ، كقوله : ( الزمخشري وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) انتهى كلامه . ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان ، لأنه يحتمل أن يكونه ( وليس الذكر كالأنثى ) في هذه القراءة من كلامها ، ويكون المعترض جملة واحدة ، كما كان من كلامها في قراءة من قرأ : وضعت ، بضم التاء ، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ; لأن في اعتراض جملتين خلافا لمذهب أبي علي : أنه لا يعترض جملتان وقد تقدم لنا الكلام على ذلك . وأيضا تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما بين المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله : ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) ليس تشبيها مطابقا للآية ، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم الذي هو : ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) وجوابه الذي هو : ( إنه لقرآن كريم ) بجملة واحدة وهي قوله : ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) لكنه جاء في جملة الاعتراض بين بعض أجزائه وبعض ، اعتراض بجملة ، وهي قوله : ( لو تعلمون ) اعترض به بين المنعوت الذي هو : " لقسم " ، وبين نعته الذي هو : " عظيم " ، فهذا اعتراض في اعتراض ، فليس فصلا بجملتي اعتراض لقوله والله أعلم : ( بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ) وسمى من الأفعال التي تتعدى إلى واحد بنفسها ، وإلى آخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه ، وإثباته هو الأصل ، يقول سميت ابني بزيد ، وسميته زيدا . قال :
وسميت كعبا بشر العظام وكان أبوك يسمى الجعل
أي : وسميت بكعب ، ويسمى : بالجعل ، وهو باب مقصور على السماع ، وفيه خلاف عن ، وتحرير ذلك في علم النحو . الأخفش الصغير
( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) أتى خبر إن ، مضارعا وهو : أعيذها ; لأن مقصودها ديمومة الاستعاذة ، والتكرار بخلاف : وضعتها ، وسميتها ، فإنهما ماضيان قد انقطعا ، وقدمت ذكر المعاذ به على المعطوف على الضمير للاهتمام به ، ثم استدركت بعد ذلك ذكر ذريتها ، ومناجاتها الله بالخطاب السابق ، إنما هو وسيلة إلى هذه الاستعاذة ، كما يقدم الإنسان بين يدي مقصوده ما يستنزل به إحسان من يقصده ، ثم يأتي بعد ذلك بالمقصود ، وورد في الحديث ، من رواية : " أبي هريرة مريم ابنة عمران وابنها ، فإن أمها قالت حين وضعتها : وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب " . كل مولود من بني آدم له طعنة من الشيطان ، وبها يستهل الصبي ، إلا ما كان من
وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث من طرق ، والمعنى واحد . وطعن القاضي عبد الجبار في هذا الحديث ، قال : لأنه خبر واحد على خلاف الدليل ، فوجب رده ، وإنما [ ص: 441 ] كان على خلاف الدليل ; لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الشر والخير ، والصبي ليس كذلك ، ولأنه لو تمكن من هذا المس لفعل أكثر من ذلك ، من إهلاك الصالحين وغير ذلك ، لأنه خص فيه مريم وابنها عيسى دون سائر الأنبياء ، ولأنه لو وجد المس لنفي أثره ، ولو نفي لدام الصراخ والبكاء ، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلان هذا الحديث . وقال : وما يروى في الحديث : " الزمخشري مريم وابنها " . فالله أعلم بصحته ، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها ، فإنهما كانا معصومين . وكذلك كل من كان في صفتهما لقوله : ( ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) واستهلاله صارخا من مسه ، تخييل وتصوير ; لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ، ويقول : هذا ممن أغويه ، ونحوه من التخييل ، قول : ابن الرومي
لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة المس والنخس ، كما يتوهم أهل الحشو فكلا ، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم ; لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلونا به من نخسه انتهى كلامه . وهو جار على طريقة أهل الاعتزال ، وقد مر لنا شيء من الكلام على هذا في قوله : ( كالذي يتخبطه الشيطان من المس ) .
( فتقبلها ربها بقبول حسن ) قال : الأصل فتقبلها بتقبل حسن ، ولكن " قبول " محمول على : قبلها قبولا ، يقال : قبل الشيء قبولا ، إذا رضيه ، والقياس فيه الضم : كالدخول والخروج ، ولكنه جاء بالفتح ، وأجاز الزجاج الفراء ، ضم القاف ، ونقلها والزجاج فقال : قبلته قبولا وقبولا . قال ابن الأعرابي : معناه سلك بها طريق السعداء ، وقال قوم : تكفل بتربيتها والقيام بشأنها . وقال ابن عباس الحسن : معناه لم يعذبها ساعة قط من ليل ولا نهار ، وعلى هذه الأقوال يكون " تقبل " بمعنى " استقبل " ، فيكون " تفعل " بمعنى " استفعل " ، أي : استقبلها ربها ، نحو : تعجلت الشيء فاستعجلته ، وتقصيت الشيء واستقصيته ، من قولهم : استقبل الأمر أي : أخذه بأوله . قال :
وخير الأمر ما استقبلت منه وليس بأن تتبعه اتباعا
أي : أخذها في أول أمرها حين ولدت . وقيل : المعنى فقبلها أي : رضي بها في النذر ، مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك ، وقبل دعاءها في قولها : فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك ، ويكون : تفعل ، بمعنى الفعل المجرد نحو : تعجب وعجب ، وتبرأ وبرئ . والباء في : " بقبول " ، قيل : زائدة ، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر ، وقيل : ليست بزائدة .
والقبول : اسم لما يقبل به الشيء : كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد ، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ، أو مصدر على تقدير حذف مضاف أي بذي قبول حسن ، أي بأمر ذي قبول حسن ، وهو الاختصاص .
( وأنبتها نباتا حسنا ) عبارة عن حسن النشأة ، والجودة في خلق وخلق ، فأنشأها على الطاعة والعبادة . قال : لما بلغت تسع سنين صامت من النهار ، وقامت الليل حتى أربت على الأحبار . وقيل : لم تجر عليها خطيئة . قال ابن عباس قتادة : حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم . وقيل : معنى ( وأنبتها نباتا حسنا ) أي : جعل ثمرتها مثل عيسى . وانتصب : نباتا ، على أنه مصدر على غير الصدر ، أو مصدر لفعل محذوف أي : فنبتت نباتا حسنا ، ويقال : القبول : تربيتها على نعت العصمة حتى قالت : ( أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) والنبات الحسن : الاستقامة على الطاعة ، وإيثار رضا الله في جميع الأوقات . ( وكفلها زكريا ) قال قتادة : ضمها إليه . وقال أبو عبيدة : ضمن [ ص: 442 ] القيام بها ، ومن القبول الحسن والنبات الحسن أن جعل تعالى كافلها والقيم بأمرها وحفظها نبيا . أوحى الله إلى داود - عليه السلام : إذا رأيت لي طالبا فكن له خادما .
وقرأ الكوفيون : وكفلها ، بتشديد الفاء ، وباقي السبعة بتخفيفها . وأبي : وأكفلها ، ومجاهد : فتقبلها ؛ بسكون اللام ، ربها ، بالنصب على النداء ، وأنبتها : بكسر الباء ، وسكون التاء ، وكفلها : بكسر الفاء مشددة ، وسكون اللام على الدعاء من أم مريم ، لمريم . وقرأ عبد الله المزني : وكفلها ، بكسر الفاء ، وهي لغة يقال : كفل يكفل وكفل يكفل ، كعلم يعلم . وقرأ حمزة ، ، والكسائي وحفص : " زكريا " ، مقصورا ، وباقي السبعة ممدودا . وتقدم ذكر اللغات فيه .
روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة ، وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها ; لأنها كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رءوس بني إسرائيل ، وأحبارهم وملوكهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها . فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها . فانطلقوا ، وكانوا سبعة وعشرين ، إلى نهر . قيل : هو نهر الأردن ، وهو قول الجمهور . وقيل : في عين ماء كانت هناك ، فألقوا فيه أقلامهم ، فارتفع قلم زكريا ، ورسبت أقلامهم فتكفلها . قيل : واسترضع لها . وقال الحسن : لم تلتقم ثديا قط . وقال عكرمة : ألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا عكس جرية الماء ، ومضت أقلامهم مع جرية الماء . وقيل : عامت مع الماء معروضة ، وبقي قلم زكريا واقفا ، كأنما ركز في طين ، قال : إن ابن إسحاق زكريا كان تزوج خالتها ; لأنه وعمران كانا سلفين على أختين ، ولدت امرأة زكريا يحيى ، وولدت امرأة عمران مريم . وقال ، وغيره : كان السدي زكريا تزوج ابنة أخرى لعمران . ويعضد هذا القول ، يحيى وعيسى : ابنا الخالة . وقيل : إنما كفلها لأن أمها هلكت ، وكان أبوها قد هلك وهي في بطن أمها . وقيل : كان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في زكريا ابن عمها ، وكانت أختها تحته . وقال : ترعرعت وأصاب بني إسرائيل مجاعة ، فقال لهم ابن إسحاق زكريا : إني قد عجزت عن إنفاق مريم ، فاقترعوا على من يكفلها ، ففعلوا ، فخرج إليهم رجل يقال له جريج ، فجعل ينفق عليها ، وهذا استهام غير الأول ، هذا المراد منه دفعها للإنفاق عليها ، والأول المراد منه : أخذها ، فعلى هذا القول يكون زكريا قد كفلها من لدن الطفولة دون استهام ، والذي عليه الناس أن زكريا إنما كفلها بالاستهام ، ولم يدل القرآن على أن غير زكريا كفلها ، وكان زكريا أولى بكفالتها ; لأنه من أقربائها من جهة أبيها ، ولأن خالتها أو أختها تحته ، على اختلاف القولين ، ولأنه كان نبيا ، فهو أولى بها لعصمته . وزكريا هو ابن أذن بن مسلم من ولد سليمان بن داود - عليهم السلام - وذكر النقيب أبو البركات الجواني النسابة : أن يحيى بن زكريا ، واليسع ، وإلياس ، والعزير من ولد هارون أخي موسى ، فلا يكون على هذا زكريا من ولد سليمان ، ولا يكون ابن عم مريم ، لأن مريم من ذرية سليمان - عليه السلام ، و سليمان من يهوذا بن يعقوب ، و موسى و هارون بن لاوى بن يعقوب .
قال : ضمها إلى خالتها ابن إسحاق أم يحيى ، حتى إذا شبت ، وبلغت مبلغ النساء ، بنى لها محرابا في المسجد ، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليه إلا بسلم ، مثل باب الكعبة ، ولا يصعد إليها غيره . وقيل : كان يغلق عليها سبعة أبواب إذا خرج . قال مقاتل : كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح ، لا يأمن عليه أحدا ، فإذا حاضت أخرجها إلى منزله تكون مع خالتها أم يحيى أو أختها ، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس ، وقيل : كانت مطهرة من الحيض .
( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ) . قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، وقال الحسن : تكلمت في المهد ، ولم تلقم ثديا قط ، وإنما كانت يأتيها [ ص: 443 ] رزقها من الجنة . والذي ورد في الصحيح عيسى ، و صاحب جريج ، وابن المرأة ، وورد من طريق شاذ : صاحب الأخدود . والأغرب أن أن الذي تكلم في المهد ثلاثة : مريم منهم . وقيل : كان جريج النجار ، واسمه يوسف بن يعقوب ، وكان ابن عم مريم حين كفلها بالقرعة ، وقد ضعف زكريا عن القيام بها ، يأتيها من كسبه بشيء لطيف على قدر وسعه ، فيزكو ذلك الطعام ويكثر ، فيدخل زكريا عليها فيتحقق أنه ليس من وسع جريج ، فيسألها . وهذا يدل على أن ذلك كان بعد أن كبرت ، وهو الأقرب للصواب . وقيل : كانت ترزق من غير رزق بلادهم ، قال : كان عنبا في مكتل ، ولم يكن في تلك البلاد عنب ، وقاله ابن عباس ابن جبير ، ومجاهد ، وقيل : كان بعض الصالحين يأتيها بالرزق .
والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره ، فإن الله تعالى كفاه لما كفلها مؤنة رزقها ، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف . وكلما : تقتضي التكرار ، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها . ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها ، والمعنى : أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها ، ولم يوجهه هو . وأبعد من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من الله من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي ، فسماه رزقا . قال الراغب : واللفظ محتمل ، انتهى . وهذا شبيه بتفسير الباطنية .
( قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله ) استغرب زكريا وجود الرزق عندها ، وهو لم يكن أتى به ، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها ، فسأل على سبيل التعجب من وصول الرزق إليها ، وكيف أتى هذا الرزق ؟ وأنى : سؤال عن الكيفية ، وعن المكان ، وعن الزمان ، والأظهر أنه : سؤال عن الجهة ، فكأنه قال : من أي جهة لك هذا الرزق ؟ ولذلك قال أبو عبيدة : معناه من أين ؟ ولا يبعد أن يكون سؤالا عن الكيفية ، أي : كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك ؟ وقال : الكميت
أنى ومن أين أتاك الطرب من حيث لا صبوة ولا طرب
وجوابها سؤاله بأنه ( من عند الله ) ظاهره أنه لم يأت به آدمي ألبتة ، بل هو رزق يتعهدني به الله - تعالى - . وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقا ; لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدمت ، فتجيبه بأنه من عند الله ، وتحيله على مسبب الأسباب ، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض ، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم ، وبكونه يشهد مقاما شريفا ، واعتناء لطيفا بمن اختارها الله تعالى بأن جعلها في كفالته . وهذا الخارق العظيم قيل : هو بدعوة زكريا لها بالرزق ، فيكون من خصائص زكريا ، وقيل : كان تأسيسا لنبوة ولدها عيسى . وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة ; حيث ينفون وجود الخارق على يد غير النبي ، إلا إن كان ذلك في زمان نبي ، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي . والظاهر أنها كرامة خص الله بها مريم ، ولو كان خارقا لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا ، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى ، فهو كان لم يخلق بعد .
قال : وهذا الخارق من الآية التي قال تعالى : ( الزجاج وجعلناها وابنها آية للعالمين ) وقال الجبائي : يجوز أن يكون من معجزات زكريا ، دعا لها على الإجمال . لأن يوصل لها رزقها ، وربما غفل عن تفاصيل ذلك ، فلما رأى شيئا معينا في وقت معين ، سأل عنه ، فعلم أنه معجزة ، فدعا به أو سأل عن ذلك خشية أن يكون الآتي به إنسانا ، فأخبرته أنه ( من عند الله ) ويحتمل أن يكون على أيدي المؤمنين ، وسأل لئلا يكون على وجه لا ينبغي .
( إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) تقدم تفسير هذه الجملة ، والظاهر أنها من كلام مريم ، وقال : ليس من كلام الطبري مريم ، وأنه خبر من الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم . وروى جابر حديثا مطولا فيه تكثير الخبز ، واللحم على سبيل [ ص: 444 ] خرق العادة ، لفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فسألها : من أين لك هذا ؟ فقالت : هو من عند الله . فحمد الله ، وقال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل .
قيل : وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة . العموم ، الذي يراد به الخصوص في قوله : على العالمين ، والاختصاص في قوله : آدم ، ونوحا ، وآل إبراهيم ، و آل عمران . وإطلاق اسم الفرع على الأصل ، والمسبب على السبب ، في قوله : " ذرية " ، فيمن قال المراد : الآباء ، والإبهام في قوله : ما في بطني ، لما تعذر عليها الاطلاع على ما في بطنها ، أتت بلفظ : ما ، الذي يصدق على الذكر والأنثى ، والتأكيد في قوله : ( إنك أنت السميع العليم ) والخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها : وضعتها أنثى ، والاعتراض في قوله : والله أعلم بما وضعت ، في قراءة من سكن التاء ، أو كسرها ، وتلوين الخطاب ، ومعدوله في قوله : والله أعلم بما وضعت ، في قراءة من كسر التاء ، خرج من خطاب الغيبة ، في قولها : فلما وضعتها ، إلى خطاب المواجهة في قوله : بما وضعت ، والتكرار في : وأني ، وفي : زكريا ، و زكريا ، وفي : من عند الله ، إن الله ، والتجنيس المغاير في : فتقبلها ربها بقبول ، وأنبتها نباتا ، وفي : رزقا ويرزق ، والإشارة ، وهو أن يعبر باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي ، في قوله : هو من عند الله ، أي هو رزق لا يقدر على الإتيان به في ذلك الوقت إلا الله . وفي قوله : رزقا ، أتى به منكرا مشيرا إلى أنه ليس من جنس واحد ، بل من أجناس كثيرة ، لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة . والحذف في عدة مواضع لا يصح المعنى إلا باعتبارها .
( هنالك دعا زكريا ربه ) أصل : هنالك ، أن يكون إشارة للمكان ، وقد يستعمل للزمان ، وقيل بهما في هذه الآية ، أي في ذلك المكان دعا زكريا ، أو : في ذلك الوقت لما رأى هذا الخارق العظيم لمريم ، وأنها ممن اصطفاها الله ، ارتاح إلى طلب الولد ، واحتاج إليه لكبر سنه ، ولأن يرث منه ومن آل يعقوب ، كما قصه تعالى في سورة مريم ، ولم يمنعه من طلبه كون امرأته عاقرا ، إذ رأى من حال مريم أمرا خارجا عن العادة ، فلا يبعد أن يرزقه الله ولدا مع كون امرأته كانت عاقرا ، إذ كانت حنة قد رزقت مريم بعدما أيست من الولد . وانتصاب : هنالك ، بقوله : دعا ، ووقع في تفسير السجاوندي : أن هناك في المكان ، وهنالك في الزمان ، وهو وهم ، بل الأصل أن يكون للمكان سواء اتصلت به اللام والكاف ، أو الكاف فقط ، أو لم يتصلا . وقد يتجوز بها عن المكان إلى الزمان ، كما أن أصل عند ، أن يكون للمكان ، ثم يتجوز بها للزمان ، كما تقول : آتيك عند طلوع الشمس . قيل : واللام في : هنالك ، دلالة على بعد المسافة بين الدعاء والإجابة ، فإنه نقل المفسرون أنه كان بين دعائه ، وإجابته أربعون سنة . وقيل : دخلت اللام لبعد منال هذا الأمر ; لكونه خارقا للعادة ، كما أدخل اللام في قوله : ( ذلك الكتاب ) لبعد مناله ، وعظم ارتفاعه ، وشرفه . وقال الماتريدي : كانت نفسه تحدثه بأن يهب الله له ولدا يبقى به الذكر إلى يوم القيامة ، لكنه لم يكن يدعو مراعاة للأدب ، إذ الأدب أن لا يدعو لمراد إلا فيما هو معتاد الوجود ، وإن كان الله قادرا على كل شيء ، فلما رأى عندها ما هو ناقض للعادة حمله ذلك على الدعاء في طلب الولد غير المعتاد انتهى .
وقوله : كانت تحدثه نفسه بذلك ، يحتاج إلى نقل . وفي قوله : ( هنالك دعا ) دلالة على أن يتوخى العبد بدعائه الأمكنة المباركة ، والأزمنة المشرفة .
( قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ) هذه الجملة شرح للدعاء ، وتفسير له ، وناداه بلفظ : رب ; إذ هو مربيه ومصلح حاله ، وجاء الطلب بلفظ : " هب " ، لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلتها شيء يكون عوضا للواهب ، ولما كان ذلك يكاد يكون على سبيل ما لا تسبب فيه : لا من الوالد لكبر سنه ، ولا من الوالدة لكونها عاقرا لا تلد ، فكان وجوده كالوجود بغير سبب ، أتى هبة محضة منسوبة إلى الله تعالى بقوله : من لدنك ، أي : من جهة محض قدرتك من غير توسط سبب . وتقدم أن : [ ص: 445 ] لدن ، لما قرب ، وعند : لما قرب ولما بعد ، وهي أقل إبهاما من لدن ، ألا ترى أن عند ، تقع جوابا لـ " أين " ، ولا تقع له جوابا لدن ؟ . ( ومن لدنك ) متعلق : بهب ، وقيل : في موضع الحال من : " ذرية " ; لأنه لو تأخر لكان صفة ، فعلى هذا تتعلق بمحذوف ، والذرية : جنس يقع على واحد ، فأكثر . وقال : أراد بالذرية هنا واحدا ؛ دليل ذلك طلبه وليا ، ولم يطلب أولياء . قال الطبري ابن عطية : وفيما قاله تعقب ، وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد ، وهكذا كان طلب زكريا انتهى . الطبري
وفسر : طيبة ، بأن تكون سليمة في الخلق وفي الدين تقية . وقال الراغب : صالحة ، واستعمال الصالح في الطيب كاستعمال الخبيث في ضده ، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح . وقيل : أراد : بطيبة ، أنها تبلغ في الدين رتبة النبوة ، فإن كان أراد بالذرية مدلولها من كونها اسم جنس ، ولم يقيد بالوحدة ، فوصفها بطيبة ، واضح وإن كان أراد ذكرا واحدا ، فأنث لتأنيث اللفظ ، كما قال :
أبوك خليفة ولدته أخرى سكات إذا ما عض ليس بأدردا
وكما قال :
أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال
وفي قوله : ( هب لي ) دلالة على طلب الولد الصالح ، والدعاء بحصوله ، وهي سنة المرسلين والصديقين والصالحين .
( إنك سميع الدعاء ) لما دعا ربه بأنه يهب له ولدا صالحا ، أخبر بأنه تعالى مجيب الدعاء . وليس المعنى على السماع المعهود ، بل مثل قوله : سمع الله لمن حمده . عبر بالسماع عن الإجابة إلى المقصد ، واقتفى في ذلك جده الأعلى إبراهيم - عليه السلام - إذ قال : ( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ) فأجاب الله دعاءه ورزقه على الكبر ، كما رزق إبراهيم على الكبر ، وكان قد تعود من الله إجابة دعائه . ألا ترى إلى قوله : ( ولم أكن بدعائك رب شقيا ) ؟ .
قيل : وذكر تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ : أحدها : هذا ، والثاني : ( إني وهن العظم مني ) إلى آخره . والثالث : ( رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ) فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات ، بهذه الثلاث الصيغ ، ودل على أن بين الدعاء والإجابة زمانا انتهى . ولا يدل على ذلك تكرير الدعاء ، كما قيل : لأنه حالة الحكاية قد يكون حكي في قوله ( رب لا تذرني فردا ) على سبيل الإيجاز ، وفي سورة مريم على سبيل الإسهاب ، وفي هذه السورة على سبيل التوسط . وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى ، إذ لم يكن لسانهم عربيا ، ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير ، العطف بالفاء في قوله : ( فنادته الملائكة ) وفي قوله : ( فاستجبنا له ووهبنا له يحيى ) وظاهر قوله في مريم : ( يازكريا إنا نبشرك ) اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه .