تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب
وتشبيه من شبه الآية ببيت النابغة :
إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني
ليس بجيد ، لأن : منك ومني ، خبر ليس ، وتستقل به الفائدة . وفي الآية الخبر قوله : في شيء ، فليس البيت كالآية . قال ابن عطية ( فليس من الله في شيء ) معناه في شيء مرضي على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " " . وفي الكلام حذف مضاف تقديره : فليس من التقرب إلى الله والتزلف ، ونحو هذا مقوله : في شيء ، هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله : ( من غشنا فليس منا فليس من الله في شيء ) انتهى كلامه . وهو كلام مضطرب ; لأن تقديره : فليس من التقرب إلى الله ، يقتضي أن لا يكون من الله خبرا لليس ، إذ لا يستقل . فقوله : في شيء ، هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا يكون خبرا ، فيبقى : ليس ، على قوله لا يكون لها خبر ، وذلك لا يجوز . وتشبيهه بقوله - عليه السلام : " " ليس بجيد لما بيناه من الفرق في بيت من غشنا فليس منا النابغة بينه وبين الآية .
( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) هذا استثناء مفرع من المفعول له ، والمعنى لا يتخذوا كافرا وليا لشيء من الأشياء إلا لسبب التقية ، فيجوز إظهار الموالاة باللفظ والفعل دون ما ينعقد عليه القلب والضمير ، ولذلك قال : التقية المشار إليها مداراة ظاهرة . وقال : يكون مع الكفار أو بين أظهرهم ، فيتقيهم بلسانه ، ولا مودة لهم في قلبه . وقال ابن عباس قتادة : إذا كان الكفار غالبين ، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافونهم ، فلهم أن يحالفوهم ويداروهم دفعا للشر ، وقلبهم مطمئن بالإيمان . وقال : خالطوا الناس ، وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون ، ودينكم فلا تثلموه . وقال ابن مسعود صعصعة بن صوحان : خالص المؤمن وخالق الكافر ، إن الكافر يرضى منك بالخلق الحسن . وقال لأسامة بن زيد الصادق : التقية واجبة ، إني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر منه بالسارية ; لئلا يراني . وقال : الرياء مع المؤمن شرك ، ومع المنافق عبادة .
وقال ، معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين ، فأما اليوم فقد أعز الله المسلمين أن يتقوهم بأن يتقوا من عدوهم . وقال الحسن : التقية جائزة إلى يوم القيامة ، ولا تقية في القتل . وقال مجاهد : إلا أن تتقوا قطيعة الرحم فخالطوهم في الدنيا .
وفي قوله ( إلا أن تتقوا ) التفات ; لأنه خرج من الغيبة إلى الخطاب ، ولو جاء على نظم الأول لكان : إلا أن يتقوا ، بالياء المعجمة من أسفل ، وهذا النوع في غاية الفصاحة ; لأنه لما كان المؤمنون نهوا عن فعل ما لا يجوز ، جعل ذلك في اسم غائب ، فلم يواجهوا بالنهي ، ولما وقعت المسامحة والإذن في بعض ذلك ووجهوا [ ص: 424 ] بذلك إيذانا بلطف الله بهم ، وتشريفا بخطابه إياهم . وقرأ الجمهور : تقاة ، وأصله : وقية ، فأبدلت الواو تاء ، كما أبدلوها في : تجاه ، وتكاه ، وانقلبت الياء ألفا ; لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وهو مصدر على فعلة : كالتؤدة والتخمة ، والمصدر على فعل أو فعلة جاء قليلا . وجاء مصدرا على غير الصدر ، إذ لو جاء على المقيس لكان : اتقاء ونظيره ، قوله تعالى : ( وتبتل إليه تبتيلا ) وقول الشاعر :
ولاح بجانب الجبلين منه ركام يحفر الأرض احتفارا
والمعنى : إلا أن تخافوا منهم خوفا . وأمال : تقاة ، وحق تقاته ، ووافقه الكسائي حمزة هنا وقرأ بين اللفظين ، وفتح الباقون . ورش
وقال : إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه . وقرئ : تقية . وقيل للمتقي : تقاة وتقية ، كقولهم : ضرب الأمير لمضروبه انتهى . فجعل تقاة ، مصدرا في موضع اسم المفعول ، فانتصابه على أنه مفعول به ، لا على أنه مصدر ، ولذلك قدره إلا أن تخافوا أمرا . وقال الزمخشري أبو علي : يجوز أن يكون : تقاة ، مثل : رماة ، حالا من : تتقوا ، وهو جمع فاعل ، وإن كان لم يستعمل منه فاعل ، ويجوز أن يكون جمع تقي انتهى كلامه .
وتكون الحال مؤكدة ; لأنه قد فهم معناها من قوله ( إلا أن تتقوا منهم ) وتجويز كونه جمعا ضعيف جدا ، ولو كان جمع : تقي ، لكان أتقياء ، كغني وأغنياء ، وقولهم : كمي وكماة ، شاذ فلا يخرج عليه ، والذي يدل على تحقيق المصدرية فيه قوله تعالى : ( اتقوا الله حق تقاته ) المعنى حق اتقائه ، وحسن مجيء المصدر هكذا ثلاثيا أنهم قد حذفوا : اتقى ، حتى صار : تقي يتقي تق الله فصار كأنه مصدر لثلاثي . وقرأ ، ابن عباس ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو حيوة ، ويعقوب ، وسهل ، وحميد ابن قيس ، والمفضل عن عاصم : تقية ، على وزن مطية وجنية ، وهو مصدر على وزن فعيلة ، وهو قليل نحو النميمة . وكونه من افتعل نادر . وظاهر الآية يقتضي جواز موالاتهم عند الخوف منهم ، وقد تكلم المفسرون هنا في التقية ، إذ لها تعلق بالآية ، فقالوا : أما الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها ، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية ، ونصوص القرآن والسنة تدل على ذلك ، والنظر في التقية يكون فيمن يتقى منه ؟ وفيما يبيحها ؟ وبأي شيء تكون من الأقوال والأفعال ؟ فأما من يتقى منه فكل قادر غالب يكره بجور منه ، فيدخل في ذلك الكفار ، وجورة الرؤساء ، والسلابة ، وأهل الجاه في الحواضر . قال مالك : وزوج المرأة قد يكره ; وأما ما يبيحها فالقتل ، والخوف على الجوارح ، والضرب بالسوط ، والوعيد ، وعداوة أهل الجاه الجورة . وأما بأي شيء تكون من الأقوال ؟ فبالكفر فما دونه من : بيع ، وهبة ، وغير ذلك . وأما من الأفعال : فكل محرم .
وقال مسروق : إن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وهذا شاذ . وقال جماعة من أهل العلم : التقية تكون في الأقوال دون الأفعال ، روي ذلك عن ، ابن عباس والربيع ، والضحاك . وقال أصحاب أبي حنيفة : التقية رخصة من الله تعالى وتركها أفضل ، فلو أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل فهو أفضل ممن أظهر ، وكذلك كل أمر فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة . قال ، وقد قيل له : إن عرضت على السيف تجيب ؟ قال : لا . وقال : إذا أجاب العالم تقية ، والجاهل يجهل ، فمتى يتبين الحق ؟ والذي نقل إلينا خلفا عن سلف أن الصحابة وتابعيهم بذلوا أنفسهم في ذات الله . وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا سطوة جبار ظالم . وقال أحمد بن حنبل الرازي : إنما تجوز التقية فيما يتعلق بإظهار الحق والدين ، وأما ما يرجع ضرورة إلى الغير : كالقتل ، والزنا ، وغصب الأموال ، والشهادة بالزور ، وقذف المحصنات ، واطلاع الكفار على عورات المسلمين فغير جائز البتة .
وظاهر الآية يدل على أنها مع الكفار الغالبين ، إلا أن مذهب : أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحال بين المشركين [ ص: 425 ] جازت التقية محاماة عن النفس ، وهي جائزة لصون النفس والمال انتهى . قيل : وفي الآية دلالة على أنه لا ولاية لكافر على مسلم في شيء ، فإذا كان له ابن صغير مسلم بإسلام أمه فلا ولاية له عليه في تصرف ، ولا تزوج ولا غيره . قيل : وفيها دلالة على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم ، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته ; لأن ذلك من الموالاة والنصرة والمعونة . الشافعي
( ويحذركم الله نفسه ) قال : بطشه ، وقال ابن عباس : نفسه أي : إياه تعالى ، كما قال الزجاج الأعشى :
يوما بأجود نائلا منه إذا نفس الجبان تجهمت سؤالها
أراد : إذا البخيل تجهم سؤاله . قال ابن عطية : وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر ، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات . وفي الكلام حذف مضاف ; لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه . فقال ، ابن عباس والحسن : ويحذركم الله عقابه انتهى كلامه . ولما نهاهم تعالى عن اتخاذ الكافرين أولياء ، حذرهم من مخالفته بموالاة أعدائه . قال : ( وإلى الله المصير ) أي : صيرورتكم ورجوعكم ; فيجازيكم إن ارتكبتم موالاتهم بعد النهي . وفي ذلك تهديد ووعيد شديد .