( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم ) مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما ذكر أن الله تعالى أراد الاختلاف إلى مؤمن وكافر ، وأراد الاقتتال ، وأمر به المؤمنين ، وكان الجهاد يحتاج صاحبه إلى الإعانة عليه ، أمر تعالى بالنفقة من بعض ما رزق ، فشمل النفقة في الجهاد ، وهي وإن لم ينص عليها ، مندرجة في قوله : ( أنفقوا ) وداخلة فيها دخولا أوليا ، إذ جاء الأمر بها عقب ذكر المؤمن والكافر واقتتالهم ، قال والأكثرون : الآية عامة في كل صدقة واجبة أو تطوع ، وقال ابن جريج الحسن : هي في الزكاة ، والزكاة منها جزء للمجاهدين ، وقاله ، قال : أراد الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به ( الزمخشري من قبل أن يأتي يوم ) لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق ؛ لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه ، ولا خلة حتى تسامحكم أخلاؤكم به ، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعا يشفع لكم في حط الواجبات ؛ لأن الشفاعة ثم في زيادة الفضل لا غير . ( والكافرون هم الظالمون ) أراد : والتاركون الزكاة هم الظالمون ، فقال : والكافرون للتغليظ ، كما قال في آخر آية الحج . ( ومن كفر ) مكان : ومن لم يحج ، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار ، في قوله : ( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ) انتهى كلامه .
ورد قوله بأنه ليس في الآية وعيد ، فكأنه قيل : حصلوا منافع الآخرة حين تكون في الدنيا ، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة ، وقول : لأن الشفاعة ثم في زيادة الفضل لا غير ، هو قول الزمخشري المعتزلة ؛ لأن عندهم أن الشفاعة لا تكون للعصاة ، فلا يدخلون النار ، ولا للعصاة الذين دخلوا النار ، فلا يخرجون منها بالشفاعة .
وقيل : المراد منه الإنفاق في الجهاد ، ويدل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد ، فكأن المراد منه الإنفاق في الجهاد ، وهو قول الأصم . قال ابن عطية : وظاهر هذه الآية أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل خير وصلة رحم ، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال ، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين ، يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله ، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية ( والكافرون هم الظالمون ) أي : فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال ، انتهى كلامه . وندب تعالى العبد إلى أن ينفق مما رزقه ، والرزق وإن تناول غير الحلال ، فالمراد منه هنا الحلال ، و ( مما رزقناكم ) ، متعلق بقوله : ( أنفقوا ) و ( ما ) موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : رزقناكموه . وقيل : ( ما ) مصدرية أي : من رزقنا إياكم ، و ( من قبل ) متعلق بـ ( أنفقوا ) أيضا ، واختلف في مدلول ( من ) فالأولى للتبعيض ، والثانية لابتداء الغاية ، [ ص: 276 ] وزعم بعضهم أنها تتعلق : بـ ( رزقناكم ) . ( من قبل أن يأتي يوم ) حذر تعالى من الإمساك قبل أن يأتي هذا اليوم ، وهو يوم القيامة . ( لا بيع فيه ) أي : لا فدية فيه لأنفسكم من عذاب الله ، وذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة وأخذ البدل ، وقيل : لإفداء عما منعتم من الزكاة تبتاعونه تقدمونه عن الزكاة يومئذ . وقيل : لا بيع فيه للأعمال فتكتسب . ( ولا خلة ) أي : لا صداقة تقتضي المساهمة ، كما كان ذلك في الدنيا ، والمتقون بينهم في ذلك اليوم خلة ، لكن لا نحتاج إليها ، وخلة غيرهم لا تغني من الله شيئا . ( ولا شفاعة ) اللفظ عام والمراد الخصوص ، أي : ولا شفاعة للكفار ، وقال تعالى : ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) أو ولا شفاعة إلا بإذن الله ، قال تعالى : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) وقال : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) فعلى الخصوص بالكفار لا شفاعة لهم ولا منهم ، وعلى تأويل الإذن : لا شفاعة للمؤمنين إلا بإذنه . وقيل : المراد العموم ، والمعنى أن انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده لا يكون يوم القيام ألبتة ، وأما الشفاعة التي توجد بالإذن من الله تعالى فحقيقتها رحمة الله ، لكن شرف تعالى الذي أذن له في أن يشفع . وقد تعلق بقوله : ( ولا شفاعة ) منكرو الشفاعة ، واعتقدوا أن هذا نفي لأصل الشفاعة ، وقد أثبتت الشفاعة في الآخرة مشروطة بإذن الله ورضاه ، وصح حديث الشفاعة الذي تلقته الأمة بالقبول ، فلا التفات لمن أنكر ذلك .
وقرأ ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو : بفتح الثلاثة من غير تنوين ، وكذلك : ( لا بيع فيه ولا خلال ) في إبراهيم و ( لا لغو فيها ولا تأثيم ) في الطور ، وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين ، وقد تقدم الكلام على إعراب الاسم بعد لا مبنيا على الفتح ، ومرفوعا منونا ، فأغنى ذلك عن إعادته . والجملة من قوله : ( لا بيع ) في موضع الصفة ، ويحتاج إلى إضمار ، التقدير : ولا شفاعة فيه ، فحذف لدلالة ( فيه ) الأولى عليه .
( والكافرون هم الظالمون ) يعني الجائزين الحد ، و ( هم ) يحتمل أن يكون بدلا من ( الكافرون ) وأن يكون مبتدأ ، وأن يكون فصلا . قال عطاء بن دينار : الحمد لله الذي قال : والكافرون ، ولم يقل : والظالمون هم الكافرون ، ولو نزل هكذا لكان قد حكم على كل ظالم - وهو من يضع الشيء في غير موضعه - بالكفر فلم يكن ليخلص من الكفر كل عاص إلا من عصمه الله من العصيان .