هزمت عليك اليوم يا ابنة مالك فجودي علينا بالنوال وأنعمي
" داود " : اسم أعجمي ، منع الصرف للعلمية والعجمة ، وهو هنا : أبو سليمان - على نبينا وعليهما السلام - وهو داود بن إيسا ، بكسر الهمزة ، ويقال داود بن زكريا بن ينوى ، من سبط يهود بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - على نبينا وعليهم السلام . " الدفع " : الصرف ، دفع يدفع دفعا ، ودافع مدافعة ودفاعا . ( وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ) ، ظاهر هذه الآية وما قبلها يدل على أنهم كانوا مقرين بنبوة هذا النبي الذي كان معهم ، ألا ترى إلى قولهم : ( ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ) . ولكن لما أخبرهم الله : [ ص: 261 ] بأن الله قد بعث لهم طالوت ملكا أراد أن يعلمهم بآية تدل على ملكه على سبيل التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له ، وقال - وحكى معناه عن الطبري ابن عباس والسدي وابن زيد - : تعنت بنو إسرائيل وقالوا لنبيهم : وما آية ملك طالوت ؟ وذلك على وجه سؤال الدلالة على صدق نبيهم في قوله : ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ) وهذا القول أشبه من الأول بأخلاق بني إسرائيل وتكذيبهم وتعنتهم لأنبيائهم ، وقيل : خيرهم النبي في آية ، فاختاروا التابوت ، ولا يكون إتيان التابوت آية إلا إذا كان يقع على وجه يكون خارقا للعادة ، فيكون ذلك آية على صدق الدعوى ، فيحتمل أن يكون مجيئه هو المعجزة ، ويحتمل أن يكون ما فيه هو المعجز ، وهو سبب لاستقرار قلوبهم ، واطمئنان نفوسهم ; ونسبة الإتيان إلى التابوت مجاز ؛ لأن التابوت لا يأتي ، إنما يؤتى به ، كقوله : ( فإذا عزم الأمر ) ( فما ربحت تجارتهم ) . وقرأ الجمهور : ( التابوت ) بالتاء ; وقرأ أبي وزيد بالهاء ، وهي لغة الأنصار ، وقد تقدم الكلام في هذه الهاء أهي بدل من التاء أم أصل ؟ قال ابن عباس وابن السائب : كان التابوت من عود الشمشار ، وهو خشب تعمل منه الأمشاط ، وعليه صفائح الذهب ، وقيل : كانت الصفائح مموهة بالذهب ، وكان طوله ثلاثة أذرع في ذراعين ، وقد كثر القصص في هذا التابوت والاختلاف في أمره ، والذي يظهر أنه تابوت معروف حاله عند بني إسرائيل ، كانوا قد فقدوه وهو مشتمل على ما ذكره الله تعالى مما أبهم حاله ، ولم ينص على تعيين ما فيه ، وأن الملائكة تحمله ، ونحن نلم بشيء مما قاله المفسرون والمؤرخون على سبيل الإيجاز ، فذكروا : أن الله تعالى أنزل تابوتا على آدم فيه صور الأنبياء ، وبيوت بعددهم ، وآخره بيت محمد - صلى الله عليه وسلم - فتناقله بعده أولاده شيث فمن بعده إلى إبراهيم ، ثم كان عند إسماعيل ، ثم عند ابنه قيذار ، فنازعه إياه بنو عمه أولاد إسحاق ، وقالوا له : قد صرفت النبوة عنكم إلا هذا النور الواحد ، فامتنع عليهم ، وجاء يوما يفتحه فتعسر ، فناداه مناد من السماء : لا يفتحه إلا نبي ، فادفعه إلى ابن عمك يعقوب ، فحمله على ظهره إلى كنعان ، فدفعه ليعقوب ، فكان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام ، فوضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه ، ثم توارثها أنبياء بني إسرائيل إلى أن وصل إلى شمويل ، فكان فيه ما ذكره الله في كتابه . وقيل : اتخذ موسى التابوت ليجمع فيه رضاض الألواح .
والسكينة هي الطمأنينة ، ولما كانت حاصلة بإتيان التابوت ، جعل التابوت ظرفا لها ، وهذا من المجاز الحسن ، وهو تشبيه المعاني بالأجرام ، وجاء في حديث : أنه كان يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة ، فغشيته سحابة ، فجعلت تدور وتدنو ، وجعل فرسه ينفر منها ، فلما أصبح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال : " عمران بن حصين " . تلك السكينة تنزلت للقرآن
وفي حديث : " بينما هو ليلة يقرأ في مربده " الحديث ، وفيه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أسيد بن حضير " . فأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن نزول السكينة مرة ، ومرة عن نزول الملائكة ، ودل حديث تلك الملائكة كانت تسمع لذلك ، ولو قرأت لأصبحت تراها الناس ما تستتر منهم أسيد على أن نزول السكينة في حديث عمران هو على حذف مضاف ، أي : تلك أصحاب السكينة ، وهم الملائكة المخبر عنهم في حديث أسيد ، وجعلوا ذوي السكينة ؛ لأن إيمانهم في غاية الطمأنينة ، وطواعيتهم دائمة لا يعصون الله ما أمرهم ، وقد جاء في ( الصحيح ) : " " . ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ، وحفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده
فنزول السكينة عليهم كناية عن التباسهم بطمأنينة الإيمان ، واستقرار ذلك في قلوبهم ؛ لأن من تلا كتاب الله وتدارسه يحصل له بالتدبر في معانيه ، والتفكر في أساليبه ، ما يطمئن إليه قلبه ، وتستقر له نفسه ، وكأنه كان قبل [ ص: 262 ] التلاوة له والدراسة خاليا من ذلك ، فحين تلا نزل ذلك عليه ، وقد قال بهذا المعنى بعض المفسرين ، قال قتادة : السكينة هنا الوقار . وقال عطاء : ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ، وقال نحوه . الزجاج
وقال : التابوت صندوق التوراة ، كان الزمخشري موسى - عليه السلام - إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون ، والسكينة : السكون والطمأنينة ، وذكر عن علي أن السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، وهي ريح هفافة ، وقيل : السكينة صورة من زبرجد أو ياقوت ، لها رأس كرأس الهر وذنب كذنبه وجناحان ، فتئن فيزف التابوت نحو العدو ، وهم يمضون معه ، فإذا استقر ثبتت وسكنوا ، ونزل النصر . وقيل : السكينة بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء ، فإن الله ينصر طالوت وجنوده ، ويقال : جعل تعالى سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي فيه رضاض الألواح ، والعصا ، وآثار أصحاب نبوتهم ، وجعل تعالى سكينة هذه الأمة في قلوبهم ، وفرق بين مقر تداولته الأيدي ، قد فر مرة ، وغلب عليه مرة ، وبين مقر بين أصبعين من أصابع الرحمن .
وقرأ أبو السماك : ( سكينة ) ، بتشديد الكاف وارتفاع ( سكينة ) بقوله : فيه ، وهو في موضع الحال ، أي : كائنا فيه سكينة . و ( من ) لابتداء الغاية ، أي : كائنة من ربكم ، فهو في موضع الصفة ، أو متعلقا بما تعلق به قوله : ( فيه ) ويحتمل أن يكون للتبعيض على تقدير حذف مضاف ، أي : من سكينات ربكم .
والبقية ; قيل : رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، قاله عكرمة . وقيل : عصا موسى ، قاله وهب ، وقيل : عصا موسى وهارون وثيابهما ، ولوحان من التوراة والمن ، قاله أبو صالح . وقيل : العلم والتوراة قاله مجاهد وعطاء . وقيل : رضاض الألواح وطست من ذهب وعصا موسى وعمامته ، قاله مقاتل . وقيل : قفيز من من ورضاض الألواح حكاه . وقيل : العصا والنعلان ، حكاه سفيان الثوري أيضا . وقيل : الجهاد في سبيل الله ، وبذلك أمروا ، قاله الثوري الضحاك . وقيل : التوراة ورضاض الألواح قاله . وقيل : لوحان من التوراة ، وثياب السدي موسى و هارون وعصواهما ، وكلمة الله : لا إله إلا الله الحكيم الكريم ، وسبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين . وقيل : عصا موسى وأمور من التوراة ، قاله الربيع . ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر في التابوت ، فأخبر كل قائل عن بعض ما فيه ، وانحصر بهذه الأقوال ما في التابوت من البقية . ( مما ترك ) في موضع الصفة لـ ( بقية ) و ( من ) للتبعيض ، و ( آل موسى وآل هارون ) هم من الأنبياء ، إليهما من قرابة أو شريعة ، والذي يظهر أن آل موسى وآل هارون هم الأنبياء الذين كانوا بعدهما ، فإنهم كانوا يتوارثون ذلك إلى أن فقد . ونذكر كيفية فقده إن شاء الله .
وقال : ويجوز أن يراد مما تركه الزمخشري موسى و هارون ، والآل مقحم لتفخيم شأنهما ، انتهى . وقال غيره : ( آل ) هنا زائدة ، والتقدير : مما ترك موسى و هارون ، ومنه اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى آل أبي أوفى ، يريد نفسه ، ولقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود ، أي : من مزامير داود ; ومنه قول جميل :
بثينة من آل النساء وإنما يكن لأدنى لا وصال لغائب
أي : من النساء ، انتهى . ودعوى الإقحام والزيادة في الأسماء لا يذهب إليه نحوي محقق ، وقول : والآل مقحم لتفخيم شأنهما إن عنى بالإقحام ما يدل عليه أول كلامه في قوله : ويجوز أن يراد مما تركه الزمخشري موسى و هارون ، فلا أدري كيف يفيد زيادة ( آل ) تفخيم شأن موسى و هارون ؟ وإن عنى بالآل الشخص ، فإنه يطلق على شخص الرجل آله ، فكأنه قيل : مما ترك موسى و هارون أنفسهما ، فنسب تلك الأشياء العظيمة التي تضمنها التابوت إلى أنها من بقايا موسى و هارون شخصيهما ، أي [ ص: 263 ] أنفسهما لا من بقايا غيرهما ، فجرى ( آل ) هنا مجرى التوكيد الذي يراد به : أن المتروك من ذلك الخير هو منسوب لذات موسى و هارون ، فيكون في التنصيص عليهما بذاتهما تفخيم لشأنهما ، وكان ذلك مقحما ؛ لأنه لو قيل : مما ترك موسى و هارون لاكتفى ، وكان ظاهر ذلك أنهما أنفسهما تركا ذلك وورث عنهما .
( تحمله الملائكة ) وقرأ مجاهد : ( يحمله ) ، بالياء من أسفل ، والضمير يعود على التابوت ، وهذه الجملة حال من التابوت ، أي : حاملا له الملائكة ، ويحتمل الاستئناف ، كأنه قيل : ومن يأتي به وقد فقد ؟ فقال : ( تحمله الملائكة ) استعظاما لشأن هذه الآية العظيمة ، وهو أن الذي يباشر إتيانه إليكم الملائكة الذين يكونون معدين للأمور العظام ، ولهم القوة والتمكين والاطلاع بإقدار الله لهم على ذلك ، ألا ترى إلى تلقيهم الكتب الإلهية وتنزيلهم بها على من أوحي إليهم ، وقلبهم مدائن العصاة ، وقبض الأرواح ، وإرجاء السحاب ، وحمل العرش ، وغير ذلك من الأمور الخارقة ، والمعنى : تحمله الملائكة إليكم .
قال : جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض ، وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند ابن عباس طالوت . قال وهب : قالوا لنبيهم : انعت وقتا تأتينا به فقال : الصبح ، فلم يناموا ليلتهم حتى سمعوا حفيف الملائكة بين السماء والأرض .
وقال قتادة : كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع ، فبقي هناك ولم يعلم به بنو إسرائيل ، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت ، فأقروا بملكه . قال ابن زيد : غير راضين ، وقيل : سبى التابوت أهل الأردن - قرية من قرى فلسطين - وجعلوه في بيت صنم لهم تحت الصنم ، فأصبح الصنم تحت التابوت ، فسمروا قدمي الصنم على التابوت ، فأصبح وقد قطعت يداه ورجلاه ملقى تحت التابوت ، وأصنامهم منكسة ، فوضعوه في ناحية من مدينتهم ، فأخذ أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم ، فدفنوه بالصحراء في متبرز لهم ، فكان من تبرز هناك أخذه الناسور والقولنج ، فتحيروا ، وقالت امرأة من أولاد الأنبياء من بني إسرائيل : ما تزالوا ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم ، فأخرجوه عنكم ، فحملوا التابوت على عجلة ، وعلقوا بها ثورين أو بقرتين ، وضربوا جنوبهما ، فوكل الله أربعة من الملائكة يسوقونهما ، فما مر التابوت بشيء من الأرض إلا كان مقدسا إلى أرض بني إسرائيل ، وضع التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل ، ورجعا إلى أرضهما ، فلم يرع بني إسرائيل إلا التابوت ، فكبروا وحمدوا الله على تمليك طالوت ، فذلك قوله : ( تحمله الملائكة ) .
وقال : إن التابوت والعصا في ابن عباس بحيرة طبرية يخرجان قبل يوم القيامة ، وقيل : عند نزول عيسى ، على نبينا وعليه السلام .