( ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) أشار بذلك إلى ما شرعه تعالى من العفو والدية ، إذ أهل التوراة كان مشروعهم القصاص فقط ، وأهل الإنجيل مشروعهم العفو فقط ، وقيل : لم يكن العفو في أمة قبل هذه الأمة ، وقد تقدم طرق من هذا النقل ، وهذه الأمة خيرت بين القصاص وبين العفو والدية ، وكان العفو والدية تخفيفا من الله ، إذ فيه انتفاع الولي بالدية ، وحصول الأجر بالعفو واستبقاء مهجة القاتل ، وبذل ما سوى النفس هين في استبقائها ، وأضاف هذا التخفيف إلى الرب : لأنه المصلح لأحوال عبيده ، الناظر لهم في تحصيل ما فيه سعادتهم الدينية والدنيوية ، وعطف ( ورحمة ) على ( تخفيف ) : لأن من استبقى مهجتك بعد استحقاق إتلافها فقد رحمك . وأي رحمة أعظم من ذلك ؟ ولعل القاتل المعفو عنه يستقل من الأعمال الصالحة في المدة التي عاشها بعد استحقاق قتله [ ص: 15 ] ما يمحو به هذه الفعلة الشنعاء ، فمن الرحمة إمهاله لعله يصلح أعماله .
( فمن اعتدى بعد ذلك ) ، أي : من تجاوز شرع الله بعد العقود وأخذ الدية بقتل القاتل بعد سقوط الدم ، أو بقتل غير القاتل ، وكانوا في الجاهلية يفعلون ذلك ، ويقتلون بالواحد الاثنين والثلاثة والعشرة ، وقيل : المعنى : من قتل بعد أخذ الدية ، وقيل : بعد العفو ، وقيل : من أخذ الدية بعد العفو عنها . والأظهر القول الأول لتقدم العفو ، وأخذ المال .
والاعتداء ، وهو تجاوز الحد يشمل ذلك كله . وقال : بعد ذلك التخفيف ، فجعل " ذلك " إشارة إلى التخفيف ، وليس يظهر أن " ذلك " إشارة إلى التخفيف ، وإنما الظاهر ما شرحناه به من العفو وأخذ الدية ، وكون ذلك تخفيفا هو كالعلة لمشروعية العفو وأخذ الدية ، ويحتمل : " من " في قوله : ( الزمخشري فمن اعتدى ) أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة .
( فله عذاب أليم ) ، جواب الشرط ، أو خبر عن الموصول ، وظاهر هذا العذاب أنه في الآخرة : لأن معظم ما ورد من هذه التوعدات إنما هي في الآخرة . وقيل : العذاب الأليم هو في الدنيا ، وهو قتله قصاصا ، قاله عكرمة ، ، وابن جبير والضحاك . وقيل : هو قتله البتة حدا ، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ، قاله عكرمة أيضا ، وقتادة ، والسدي . وقيل : عذابه أن يرد الدية ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة ، قاله الحسن . وقيل : عذابه تمكين الإمام منه يصنع فيه ما يرى ، قاله . ومذهب جماعة من العلماء أنه إذا قتل بعد سقوط الدم هو كمن قتل ابتداء ، إن شاء الولي قتله ، وإن شاء عفا عنه . عمر بن عبد العزيز