[ ص: 487 ] فصل ( في ) . المفاضلة بين الفقير الصابر والغني الشاكر
هل الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر أم العكس ؟ فيه قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام ، وذكر القاضي أحمد أبو الحسين أن أصحهما أن الفقير الصابر أفضل وقال : اختارها أبو إسحاق بن شاقلا والوالد السعيد وقال الشيخ تقي الدين : والصواب في قوله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .
فإن استويا في الفتوى استويا في الدرجة كذا قال وقال في تاريخه الحاكم عبيد الله بن محمد بن نافع بن مكرم الزاهد أبو عباس العابد كان من الأبدال ، توفي في المحرم سنة أربع وثمانين وثلثمائة ، سمعت الأستاذ " أبو الوليد " يقول لو أن التابعين والسلف رأوا عبيد الله الزاهد لفرحوا به سمعت محمد بن جعفر المزكى سمعت يقول : أبا علي الثقفي عبيد الله الزاهد من المجتهدين قال قلت الحاكم : لعبيد الله قد اختلف الناس في الفقر والغنى أيهما أفضل ؟ قال : ليس لواحد منهما فضل إنما يتفاضل الناس بإيمانهم ثم قال عبيد الله : كلمني أبو الوليد في فضل الغني .
واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم { علي } قلت : يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم { أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غني } قال أفضل الصدقة جهد المقل عبيد الله : والدليل على ما ذكرت أن الناس يتفاضلون بإيمانهم قوله صلى الله عليه وسلم لحارثة : { } . جعل اختيار الفقر على الغنى حقيقة الإيمان وهو غريب ضعيف انتهى كلامه . إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك قال : عزفت نفسي عن الدنيا
قال ابن الجوزي : وأما التفضيل بين الغني والفقير فظاهر النقل يدل على تفضيل الفقير ، ولكن لا بد من تفضيل فنقول إنما يتصور الشك والخلاف في [ ص: 488 ] فقير صابر ليس بحريص بالإضافة إلى غني شاكر ينفق ماله في الخيرات ، أو فقير حريص مع غني حريص ، فلا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص ، فإن كان الغني متمتعا بالمال في المباحات ، فالفقير القنوع أفضل منه ، وكشف الغطاء في هذا إنما يراد لغيره ولا يراد لعينه ، ينبغي أن يضاف إلى مقصوده إذ به يظهر فضله ، والدنيا ليست محذورة لعينها بل لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى ، والفقر ليس مطلوبا لعينه لكن ; لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى وعدم التشاغل عنه .
وكم من غني لا يشغله الغنى عن الله تعالى كسليمان عليه السلام وكذلك عثمان رضي الله عنهما وكم من فقير شغله فقره عن المقصود وصرفه عن حب الله تعالى والأنس به ، وإنما الشاغل له حب الدنيا إذ لا يجتمع معه حب الله تعالى ، فإن المحب لشيء مشغول به ، سواء كان في فراقه أو في وصاله ، بل قد يكون شغله في فراقه أكثر . وعبد الرحمن بن عوف
والدنيا مشوقة الغافلين فالمحروم منها مشغول بطلبها ، والقادر عليها مشغول بحفظها ، والتمتع بها ، وإن أخذت الأمر باعتبار الأكثر ، فالفقير عن الخطر أبعد ; لأن فتنة السراء أشد من فتنة الضراء ، ومن العصمة أن لا تجد ، ولما كان ذلك في الآدميين إلا القليل منهم جاء الشرع بذم الغنى وفضل الفقر ، وذكر كلاما كثيرا .
قال : ذهب قوم إلى تفضيل الغني ; لأن الغني مقتدر والفقير عاجز والقدرة أفضل من العجز قال القرطبي الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة ، وذهب آخرون إلى تفضيل الفقير ; لأن الفقير تارك والغني ملابس ، وترك الدنيا أفضل من ملابستها قال الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة .
وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج من حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين قال الماوردي : وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال ، وأن خيار الأمور أوساطها . [ ص: 489 ]
قال الوزير الحنبلي : ولو لم يكن في الفقر إلا أنه باب رضاء الله ولو لم يكن في الغنى إلا أنه باب سخط الله ; لأن الإنسان إذا رأى الفقير رضي عن الله في تقديره ، وإذا رأى الغني تسخط بما هو عليه ، وذلك يكفي في فضل الفقير على الغني . ابن هبيرة