قال محمد بن أحمد بن إسماعيل أبو الحسين بن سمعون وسأله : أيها الشيخ تدعو الناس إلى الزهد في الدنيا والترك لها وتلبس أحسن الثياب وتأكل أطيب الطعام فكيف هذا قال كل ما يصلحك مع الله فافعله ، إذا صلح حالك مع الله تلبس لين الثياب وتأكل طيب الطعام فلا يضرك . البرقاني
وقال ابن الجوزي قد تقع لكثير من الناس يقظة عند سماع المواعظ وأخبار الزهاد والصالحين فيقومون على أقدام العزائم على الزهد وانتظار الموت بما يصلح لهم ، ففيهم من يقتدي بجاهل من المتزهدين أو يعمل على ما في كتاب بعض الزهاد فيرى فيه التقلل من الطعام بالتدريج وترك الشهوات وأشياء قد وضعها عن قلة علمه بالشريعة والحكمة فيديم الصوم والسهر والتقلل ، ويدوم على المآكل الردية ، فتجف المعدة وتضيق ، وتقوى السوداء ، وتنصب الأخلاط إلى الكبد والطحال وربما تصاعدت إلى الدماغ فيبس أو فسد الطبع وربما تغير ذهنه فاستوحش من الخلق وحشة يعتقدها أنسا بالحق ، فأعرض عن مجالسة العلماء ظنا منه أن قد بلغ المقصود ، فهذه الأشياء تعكر أولا المطلوب من التعبد فينقطع الإنسان بضعف القوة ويبقى ، معالجا للأمراض فيشتغل الفكر فيها عما هو أهم ، ولقد تخبط في هذا الأمر خلق كثير من الصالحين صحت مقاصدهم وجهلوا الجادة فمشوا في غيرها ، وفي هؤلاء الذين حملوا على أنفسهم من عاجلة المرض والموت ، وفيهم من رجع القهقرى ، ومنهم من تخبط فلا من هؤلاء ولا من هؤلاء .
فأما العلماء الفقهاء فإنهم على قانون الحكمة سبيل العلم ، فإياك أن تعرض عن الجادة السليمة ، واحذر من الاقتداء بجهال المتصوفة والمتزهدين [ ص: 254 ] الذين تركوا الدنيا على زعمهم ، فالصادق منهم في تركها عامل بواقعه لا بالعلم والمبهرج منهم خسر الدنيا والآخرة .
ومن جهل هؤلاء أنهم لو رأوا عاملا يرفق بنفسه عابوه ، ولو رأوا عليه قميص كتان قال زاهدهم هذا ما يعمل بعلمه ؟ ولو رأوه راكبا فرسا قالوا هذا جبار فإياك أن تحملك وثبة عزم على أن تروم ما لا تناله فتزلق ، وإن نلته أثمر تلفا أو رد إلى وراء ، واستضئ بمصباح العلم ، فإن قل علمك فاقتد بعالم محكم وراع بدنك مراعاة المطية ، وليكن همك تقويم أخلاقك ، والمقصود صدق النية لا تعذيب الأبدان . وأكثر الكلام في هذا المعنى في مواضع وأن الجادة طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أيضا أما ترى زهاد زماننا إلا من عصمه الله باتباع السنة يغشاهم أبناء الدنيا والظلمة فلا ينهونهم عما هم فيه إلا بطرف اللسان ؟ أين هؤلاء من سفيان حيث كان لا يكلم من يكلم ظالما ؟ ولو قيل لزهادنا اخرجوا فاشتروا حاجة من السوق صعب عليهم حفظا لرياستهم كأنهم ما علموا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتري حاجته ويحملها بنفسه } ، ولو قيل لزهاد زماننا كلوا معنا لقمة لخافوا من انكسار الجاه لأن الناس يعتقدون فيهم دوام الصوم وأين هم من معروف ، أصبح يوما صائما فسمع ساقيا يقول رحم الله من شرب ، فشرب .
فقيل له : أما كنت صائما ؟ فقال بلى ، ولكن رجوت دعوته :
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب ولا خرجن من الحمام مائلة
أوراكهن صقيلات العراقيب حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
والله لا يبقى في القيامة إلا الإخلاص ، وقبل القيامة لا يبقى إلا ذكر [ ص: 255 ] المخلصين ، كم حول معروف من عالم لا يعرف قبره ، ومن زاهد لا يدرى أين هو ؟ ومعروف معروف بالله عليكم اقبلوا نصحي يا إخواني عاملوا الله سبحانه وتعالى في الباطن حتى لا يدرى أنكم أهل معاملة إلى أن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معه يبس الزهاد وحده ، ولا الانبساط في الدنيا وحده بل حاله جامعة لكل صالح إلى أن قال إن الربا يكون في التعبدات فالعلم أصل كل خير ، ومعدنه أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وآدابه صلى الله عليه وسلم .
وقال أيضا أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدئ ، ولا صاحب ورع فيستفيد منه المتزهد ، فالله الله ، عليكم بملاحظة سير القوم ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم ، والاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم كما قال :
فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أرى الديار بسمعي