قال ما بلغني أن الخلال سئل عن الزاهد يكون زاهدا ومعه مائة دينار قال نعم على شريطة إذا زادت لم يفرح ، وإذا نقصت لم يحزن قال وبلغني أن أحمد قال أحمد لسفيان : حب الرياسة أعجب إلى الرجل من الذهب والفضة ، ومن أحب الرياسة طلب عيوب الناس أو عاب الناس أو نحو هذا وقال سئل أبو الخطاب وأنا شاهد : ما الزهد في الدنيا قال قصر الأمل والإياس مما في أيدي الناس . أحمد
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم { } وعن إن هذا المال حلوة خضرة ، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع مرفوعا { أبي ذر لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } } . رواه ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها نفيت عنك ; لأن الله تعالى يقول : { الترمذي .
وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وعمرو بن واقد منكر الحديث يعني الذي في إسناده وكذا قال منكر الحديث وقال البخاري النسائي متروك ، وضعفه أيضا غيرهم . والدارقطني
ورواه من حديثه . ابن ماجه
قال الشيخ تقي الدين إذا سلم فيه القلب من الهلع واليد من العدوان [ ص: 242 ] كان صاحبه محمودا وإن كان معه مال عظيم ، بل قد يكون مع هذا زاهدا أزهد من فقير هلوع كما قيل وذكر ما سبق في أول الفصل وذكر الخبرين السابقين وما رواه للإمام أحمد الترمذي وحسنه وإسناده جيد عن الحسن عن مرفوعا { أبي سعيد } وعن التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء سفيان أنه قيل له يكون الرجل زاهدا وله مال قال نعم ، إن ابتلي صبر ، وإن أعطي شكر . وقال سفيان إذا بلغك عن رجل بالمشرق أنه صاحب سنة وبالمغرب صاحب سنة فابعث إليهما بالسلام وادع الله لهما فما أقل أهل السنة والجماعة .
قال وذكر القاضي أبو يعلى أبو القاسم القشيري في كتاب الرسالة إلى الصوفية وقال أحمد بن حنبل ترك الحرام وهو زهد العوام ( والثاني ) ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص ( والثالث ) ترك ما يشغل العبد عن الله عز وجل وهو زهد العارفين قال وسمعت الزهد على ثلاثة أوجه محمد بن الحسين يقول سمعت علي بن عمر الحافظ سمعت أبا سهل بن زياد يقول : سمعت يقول : سئل أبي ما الفتوة ؟ فقال ترك ما تهوى لما تخشى . عبد الله بن أحمد
وقال قد قلت عشرين ألف بيت في الزهد ووددت أن لي منها الأبيات الثلاثة التي أبو العتاهية لأبي نواس
يا نواس توقر وتعز وتصبر إن يكن ساءك دهر
فلما سرك أكثر يا كثير الذنب عفو الـ
له من ذنبك أكبر
ورأى بعض إخوان له في النوم بعد أيام فقال له ما فعل الله بك قال : غفر لي بأبيات قلتها وهي الآن تحت وسادتي فنظروا فإذا برقعة تحت وسادته في بيته مكتوب فيها : أبي نواس
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن الذي يدعو إليه المجرم [ ص: 243 ]
أدعوك رب كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل ظني ثم أني مسلم
وروي عن أنه سئل عن الزهد قال قصر الأمل . الإمام أحمد
ورواه في موضع آخر عن سفيان عن الزهري أنه قال ذلك .
وقال حدثني أبي سمعت عبد الله بن أحمد سفيان يقول ما ازداد رجل علما فازداد من الدنيا قربا إلا ازداد من الله بعدا .
وقال أحمد بن عبد الله بن خالد بن ماهان المعروف بابن أسد : سئل عن مسألة في الورع فقال أنا أستغفر الله لا يحل لي أن أتكلم في الورع ، وأنا آكل من غلة أحمد بن حنبل بغداد لو كان صلح أن يجيبك عنه لأنه كان لا يأكل من غلة بشر بن الحارث بغداد ولا من طعام السواد . ذكره ابن الأخضر فيمن روى عن ، وروى أحمد الترمذي عن زيد بن أخزم عن إبراهيم بن أبي الوزير عن عن عبد الله بن جعفر المخرمي محمد بن عبد الرحمن بن نبيه عن ابن المنكدر عن رضي الله عنه قال { جابر } ذكر رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة واجتهاد وذكر آخر برعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يعدل بالرعة شيء ابن نبيه تفرد عنه المخرمي وباقيه جيد قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وروى عن الخلال الفضل قال علامة الزهد في الناس إذا لم يحب ثناء الناس عليه ولم يبال بمذمتهم وإن قدرت أن لا تعرف فافعل وما عليك ألا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله عز وجل ، ومن أحب أن يذكر لم يذكر .
وقال إسحاق بن بنان قال : سمعته يقول يعني أحمد بشرا قال ما صدق الله عبد أحب الشهرة . إبراهيم بن أدهم
وقال المروذي سمعت أبا عبد الله يقول من بلي بالشهرة لم يأمن أن يفتنوه لأني لا أفكر في بدء أمري ، طلبت الحديث وأنا ابن ست عشرة سنة .
قال في الفنون هجران الدنيا في عصرنا هذا ليس من الزهد في شيء ، إنما المنقطع أنف من الذل فإن مخالطة القدري والتخلي عنهم [ ص: 244 ] تراعة ومن طلق عجوزا مناقرة فلا عجب وقال ما قطع عن الله وحمل النفس على محارم الله فهو الدنيا المذمومة وإن كان إملاقا وفقرا وما أوصل إلى طاعة الله فذاك ليس بالدنيا المذمومة وإن كان إكثارا وقال الواجب شكرها من حيث هي نعمة الله وطريق إلى الآخرة وذريعة إلى طاعة الله ، وكل خير يعود بالإفراط فيه شر ، كالسخاء يعود إسرافا ، والتواضع يعود ذلا ، والشجاعة تعود تهورا . ابن عقيل
وقال بعضهم في قوله تعالى : { فلنحيينه حياة طيبة } قال : القناعة قال لو علمت قدر الراحة في القناعة والعز الذي في مدارجها علمت أنها العيشة الطيبة لأن القنوع قد كفي تكلب طباعه ، والطبع كالصبيان الرعن ومن بلي بذلك أذهب وقته في أخس المطالب وفاتته الفضائل فأصبح كمربي طفل يتصابى له ويجتهد في تسكين طباعه تارة بلعبة تلهيه وتارة بشهوة ، وتارة بكلام الأطفال ، ومن كان دأبه التصابي متى يذوق طعم الراحة ، ومن كان في طبعه كذا فمتى يستعمل عقله قال ابن عقيل والحياة الطيبة التفويض إلى الله كالصبي حال التربية يفوض أمره إلى والديه ويثق بهما مستريحا من كد التخير ، فلا يتخير لنفسه مع تفويضه إلى من يختار له . المفوض وثق بالمفوض إليه قال ابن عقيل وعندي أنها في الجنة أعني الحياة الطيبة لأن الطيب الصافي والصفاء في الجنة . ابن عقيل
وقال أيضا من عجيب ما نقدت أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله ، وذكر نكد العيش فيه ، وقد رأوا من انهدام الإسلام ، وتشعث الأديان ، وموت السنن ، وظهور البدع ، وارتكاب المعاصي ، وتقضي العمر في الفارغ الذي لا يجدي ، فلا أحد منهم ناح على دينه [ ص: 245 ] ولا بكى على فارط عمره ولا تأسى على فائت دهره ، ولا أرى لذلك سببا إلا قلة مبالاتهم بالأديان وعظم الدنيا في عيونهم ضد ما كان عليه السلف الصالح : يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين انتهى كلامه .
وقد تقدم في أول فصول طلب العلم حديث { } الدنيا ملعونة ملعون ما فيها من حديث ولمسلم { أبي هريرة } . وعن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر مرفوعا { عائشة } وأخذ ابن الدنيا دار من لا دار له ، ولها يجمع من لا عقل له خاتما فأدخله في فيه فانتزعه لعمر منه ثم بكى عمر وعنده نفر من عمر المهاجرين الأولين فقالوا له لم تبكي وقد فتح الله لك وأظهرك على عدوك وأقر عينك ؟ فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { عمر } وأنا مشفق من ذلك ، وعن لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقى الله عز وجل بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة الضحاك بن سفيان { ضحاك ما طعامك ؟ قال اللحم واللبن قال : ثم يصير إلى ماذا قال إلى ما قد علمت قال : فإن الله عز وجل ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا } . وعن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا أبي كعب مرفوعا { آدم مثل للدنيا ، وإن قزحه وملحه فانظر إلى ماذا يصير ؟ } وعن إن مطعم ابن مطرف بن الشخير عن رجل من الصحابة { بالكوفة أمير فخطب يوما فقال : إن إعطاء هذا المال فتنة ، وإن إمساكه فتنة ، وبذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرغ ثم نزل } إسناده جيد . وعن كان أبي موسى مرفوعا { } . وعن من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى أبي مالك الأشعري مرفوعا { } . وعن حلوة الدنيا مرة الآخرة ومرة الدنيا حلوة الآخرة { معاذ } وعن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال : وإياك والتنعم ، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين مرفوعا { معاوية } وعن إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة مرفوعا { ابن مسعود } ، التبقر التوسع وأصله من البقر الشق . وعن أنه نهى عن التبقر في الأهل والمال مرفوعا { عتبة بن عبد السلمي } رواهن لو أن رجلا يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت وما في مرضاة [ ص: 246 ] الله تعالى لحقره يوم القيامة أحمد
وأنشد الوزير الحنبلي لنفسه : ابن هبيرة
يلذ ندى الدنيا الغني ويطرب ويزهد فيها الألمعي المجرب
وما عرف الأيام والناس عاقل ووفق إلا كان في الموت يرغب
إلى الله أشكو همة لعبت بها أباطيل آمال تغر وتخلب
فوا عجبا من عاقل يعرف الدنا فيصبح فيها بعد ذلك يرغب
وأنشد أيضا :
الحمد لله هذي العين والأثر فما الذي باتباع الحق ينتظر
وقت يفوت وأشغال معوقة وضعف عزم ودار شأنها الغير
والناس ركضا إلى مأوى مصارعهم وليس عندهم من ركضهم خبر
تسعى بهم حادثات من نفوسهم فيبلغون إلى المهوى وما شعروا
والجهل أصل فساد الناس كلهم والجهل أصل عليه يخلق البشر
في أبيات ذكرها وأنشد أيضا
يا أيها الناس إني ناصح لكم فعوا كلامي فإني ذو تجاريب
لا تلهينكم الدنيا بزهرتها فما تدوم على حسن ولا طيب
وأنشد أيضا :
إذا قل مال المرء قل صديقه وقبح منه كل ما كان يجمل
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار
بينما يرى الإنسان فيها مخبرا حتى يرى خبرا من الأخبار
طبعت على كدر وأنت تريدها صفوا من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
العيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال سار
ليس الزمان وإن حرصت مساعدا خلق الزمان عداوة الأحرار
وتلهب الأحشاء شيب مفرقي هذا الضياء شواظ تلك النار
لا حبذا الشيب الوفي وحبذا شرخ الشباب الخائن الغدار
وطري من الدنيا الشباب وروقه فإذا انقضى فقد انقضت أوطاري
ذهب التكرم والوفاء من الورى وتصرما إلا من الأشعار
وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى يتمثل كثيرا بالبيت الثالث والرابع وذكرهما السروجي الحنفي في شرحه في الجنائز في المصاب ولابن هانئ أيضا مما قد يتعلق بغير هذا الوضع :
لا أنت عند اليسر من زواره يوما ولا في العسر من عواده
وله منها :
أفدي الكتاب بناظري فبياضه ببياضه وسواده بسواده
قد كان يرجف في ليالي وصله قلبي فكيف يكون يوم صدوده
كم عاهد الدمع لا يغري بجريتها الـ واشي فلما استقلت ظعنهم غدرا