الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( ونذر تبرر ) سمي به لطلب البر والتقرب إلى الله تعالى ( بأن يلتزم قربة ) أو صفتها المطلوبة فيها ( إن حدثت نعمة ) تقتضي سجود الشكر كما يرشد إليه تعبيرهم بالحدوث ( أو ذهبت نقمة ) تقتضي ذلك أيضا كذا نقله الإمام عن والده وطائفة من الأصحاب ، لكنه رجح قول القاضي عدم تقييدهما بذلك وهو الأوجه كما اعتمده ابن الرفعة وغيره ، وصرح به القفال فيما لو قالت لزوجها : إن جامعتني فعلي عتق عبد ، فإن قالته على سبيل المنع فلجاج أو الشكر لله حيث يرزقها الاستمتاع به لزمها الوفاء ا هـ .

                                                                                                                            والحاصل أن الفرق بين نذري اللجاج والتبرر أن الأول فيه تعليق بمرغوب عنه والثاني بمرغوب فيه ، ومن ثم ضبط بأن يعلق بما يقصد حصوله فنحو : إن رأيت فلانا فعلي صوم يحتمل النذرين ويتخصص أحدهما بالقصد ، وكذا قول امرأة لآخر إن تزوجتني فعلي أن أبرئك من مهري وسائر حقوقي فهو تبرر إن أرادت الشكر على تزوجه ( كإن [ ص: 221 ] شفي مريضي فلله علي أو فعلي كذا ) أو ألزمت نفسي كذا أو فكذا لازم لي أو واجب علي ونحو ذلك مما فيه التزام ، وما يصرح به كلامه من صحة إن شفى الله مريضي فلله علي ألف أو فعلي ألف ، ولم يذكر شيئا ولا نواه ليس بمراد لجزمه في الروضة بالبطلان مع ذكره صحة لله أو علي التصدق أو التصدق بشيء ويجزيه به أقل متمول ، والفرق أنه لم يعين في تلك مصرفا ولا ما يدل عليه من ذكر مسكين أو تصدق أو نحو ذلك ، فكان الإبهام فيها من سائر الوجوه بخلاف هذه لأن التصدق ينصرف للمساكين غالبا ، ويؤخذ منه صحة نذره التصدق بألف ويعين ألفا مما يريده .

                                                                                                                            وعلى هذا التفصيل يحمل ما وقع للأذرعي مما يوهم الصحة حتى في الأولى وابن المقري مما هو ظاهر في البطلان حتى في نذر التصدق بألف فقد غفل عن تصوير أصله صورة البطلان بما إذا لم يذكر التصدق ، والصحة بما إذا ذكر ألفا وشيئا ، فالفارق ذكر التصدق وعدمه ، ولو كرر إن شفى الله مريضي فعلي كذا تكرر ما لم يرد التأكيد ولو مع طول الفصل فيما يظهر وله فيما إذا عين أهل الذمة أو أهل البدعة إبدال كافر أو مبتدع بمسلم أو سني لا درهم بدينار ولا موسر عينه بفقير لأنهما مقصودان ، ومن ثم لو عين شيئا أو مكانا للصدقة تعين ( فيلزمه ذلك ) أي ما التزمه ( إذا حصل المعلق عليه ) لخبر { من نذر أن يطيع الله فليطعه } ويلزمه ذلك فورا إذا كان لمعين وطالب به وإلا فلا ، وخرج نحو : إن شفى الله مريضي عمرت مسجد كذا أو دار زيد فيكون لغوا لأنه وعد عار عن الالتزام ، نعم إن نوى به الالتزام لم يبعد انعقاده ، ولو شك بعد الشفاء في الملتزم أهو عتق أم صوم أم صدقة أم [ ص: 222 ] صلاة اجتهد كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى ، وفارق من نسي صلاة من الخمس بتيقن شغل ذمته بالكل فلا يخرج منه إلا بيقين ، بخلاف ما هنا فإن اجتهد ولم يظهر له شيء وأيس من ذلك فالأوجه وجوب الكل إذ لا يتم له الخروج من واجبه يقينا إلا بفعل الكل ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

                                                                                                                            ( وإن لم يعلقه بشيء كلله علي صوم ) أو علي صوم أو صدقة لفلان أو أن أعطيه كذا ولم يرد الهبة ( لزمه ) ما التزم حالا : أي وجوبا موسعا ، ولا يشترط قبول المنذور له بل عدم رده كما يأتي ( في الأظهر ) للخبر المار وهذا من نذر التبرر إذ هو قسمان معلق وغيره ، واشتراط الجواهر فيه التصريح بالله ضعيف ، ويسمى المعلق نذر مجازاة أيضا ، ولو قال لله علي أضحية أو عند شفائه لله علي عتق لنعمة الشفاء لزمه ذلك جزما تنزيلا للثاني منزلة المجازاة لوقوعه شكرا في مقابلة نعمة الشفاء .

                                                                                                                            وقضية كلام المصنف عدم اشتراط قبول المنذور له النذر بقسميه وهو كذلك ، نعم يشترط عدم رده وهو المراد بقول الروضة عن القفال في إن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق على فلان بعشرة لزمته ، إلا إذا لم يقبل فمراده بعدم القبول الرد لا غير ، ومما يقع كثيرا من بعض العوام جعلت هذا للنبي صلى الله عليه وسلم ، والأقرب فيه الصحة لاشتهاره في النذر في عرفهم ويصرف ذلك لمصالح الحجرة الشريفة ، بخلاف قوله متى حصل لي كذا أجيء له بكذا فإنه لغو ما لم يقترن به لفظ التزام أو نذر ، ولا يشترط معرفة الناذر ما نذر به فيصح بخمس ما يخرج له من معشر .

                                                                                                                            قاله القاضي ، ككل ولد أو ثمرة يخرج من أمتي أو شجرتي هذه وكعتق عبد إن ملكته ، وما في فتاوى ابن الصلاح مما يخالف ذلك ، ضعفه الأذرعي .

                                                                                                                            والحاصل أنه يشترط في المال المعين لنحو عتق أو صدقة أن يملكه أو يعلقه بملكه ما لم ينو الامتناع منه فهو نذر لجاج ، وذكر القاضي أنه لا زكاة في الحب المنذور .

                                                                                                                            قال غيره : ومحله إن نذر قبل الاشتداد والأقرب صحته للجنين قياسا على الوصية له بل أولى لأنه وإن شاركها في قبول الأخطار والجهالات والتعليق وصحته بالمعلوم والمعدوم لكنه يتميز عنها بعدم اشتراط القبول فيه ومن ثم اتجهت صحته للقن كالوصية والهبة له فيأتي فيه أحكامهما ، فلا يملك السيد ما في الذمة إلا بقبض القن ، ولا يصح لميت إلا لقبر الشيخ الفلاني حيث أراد به قربة كإسراج ينتفع به أو اطرد عرف بحمل النذر له على ذلك ويبطل [ ص: 223 ] بالتأقيت إلا في المنفعة فيأتي في نذرها ما مر في الوصية بها وإلا في نذرت لك بهذا مدة حياتك فيتأبد كالعمرى ونذر قراءة قرآن أو علم مطلوب كل يوم صحيح ولا حيلة في حله ، ولا يجوز له تقديم وظيفة يوم عليه ، فإن فاتت قضى ، ولو نذر عمارة هذا المسجد وكان خرابا فعمره غيره فهل يبطل نذره لتعذر نفوذه لأنه إنما أشار إليه وهو خراب فلا يتناول خرابه مرة أخرى أو لا ، بل يوقف حتى يخرب فيعمره تصحيحا للفظ ما أمكن كل محتمل والأول أقرب ، وتصحيح اللفظ ما أمكن إنما يعدل إليه إن احتمله لفظه ، وقد تقرر أن لفظه لا يحتمل ذلك لأن الإشارة إنما وقعت للخراب حال النذر لا غير ، نعم إن نوى عمارته وإن خرب بعد لزمته .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : بأن يلتزم قربة ) ومن ذلك ما وقع السؤال عنه من أن شخصا قال لمريد التزوج بابنته لله علي أن أجهزها بقدر مهرها مرارا فهو نذر تبرر فيلزمه ذلك ، وأقل المرار ثلاث مرات زيادة على مهرها ( قوله : أو صفتها المطلوبة ) كإيقاع الصلاة في الجماعة ( قوله يقتضي سجود الشكر ) أي بأن كان لها وقع ( قوله عدم تقييدهما بذلك ) أي اقتضائها سجود الشكر ( قوله : ويتخصص ) أي يتعين ( قوله : فهو تبرر ) أي فيجب عليها إبراؤه مما يجب لها في المهر ، ومما يترتب لها بذمته من الحقوق بعد وإن لم تعرفه كما سيأتي في قول الشارح ، ولا يشترط معرفة الناذر ما نذر به فيصح بحسب ما يخرج له من معشر قاله القاضي . [ فرع استطرادي ] وقع السؤال عما لو نذر شخص أنه إن رزقه الله ولدا سماه بكذا هل ينعقد نذره وهل يخرج من عهدة النذر بعد حصول الولد بقوله سميت ولدي بكذا وإن لم يشتهر به .

                                                                                                                            والجواب عنه أن الظاهر أن [ ص: 221 ] يقال : إن كان ما ذكره من الأسماء التي يستحب التسمية بها كمحمد وأحمد وعبد الله انعقد نذره وأنه حيث سماه بما عينه بر وإن لم يشتهر ذلك الاسم بل وإن هجر بعد فتأمله فإنه يقع كثيرا ( قوله : ولم يذكر شيئا ) أي مصرفا يدفع فيه ( قوله : والفرق أنه لم يعين ) أي بين قوله إن شفى الله مريضي إلخ ، وقوله لله أو علي التصدق إلخ ( قوله : ويعين ألفا مما يريده ) أي من دراهم أو غيرها كقمح أو فول ( قوله : والصحة بما إذا ذكر ألفا وشيئا ) قد يشكل هذا على ما قاله حج فيما لو حلف أن يفعل كذا وكرر ذلك من أن الكفارة لا تتعدد حيث لم يتخلل تكفير فإن مقتضاها عدم تعدد الكفارة عند الإطلاق بل وقصد الاستئناف ، ومقتضى ما هنا في مسألة النذر التعدد مطلقا ، وقد يفرق بينهما بأن ما هناك المراد تحقيق أمر مستقبل فالمقصود من الأيمان عليه وإن تعددت فعل المحلوف عليه لا غير والتعليق هنا يستدعي قربة غير الأولى فلا يترك مقتضاه إلا بصارف وهو التوكيد ( قوله : أو مبتدع ) ومثله مرتكب كبيرة .

                                                                                                                            ( قوله : ولا موسر ) ولعل وجه تعيين الدفع للموسر وجواز العدول عن الكافر والمبتدع والسني أن التصدق عليهما قد يكون سببا لبقائهما على الكفر والبدعة ، بخلاف التصدق على الموسر فإنه لا يترتب عليه شيء ( قوله : ومن ثم لو عين شيئا ) كأن قال لله علي أن أتصدق بهذا أو أتصدق بكذا في مكان كذا ، ومن ذلك ما لو قال لله علي فعل ليلة للفقراء مثلا فيجب عليه فعل ما اعتيد في مثله ويبر بما يصدق عليه عرفا أنه فعل ليلة ولا يجزيه التصدق بما يساوي ما يصرف على الليلة ، ويختلف ذلك باختلاف عرف الناذر ، فإن كان فقيها مثلا اعتبر ما يسمى ليلة في عرف الفقهاء ( قوله وإلا فلا ) دخل فيه ما لو كان لجهة عامة كالفقراء فليراجع وقياس ما في الزكاة وغيرها خلافه فيجب الفور ( قوله : عمرت مسجد كذا ) خرج به ما لو قال فعلي عمارة مسجد كذا فتلزمه عمارته ، يخرج من عهدة ذلك بما يسمى [ ص: 222 ] عمارة لمثل ذلك المسجد عرفا ( قوله اجتهد ) أي فلو تغير اجتهاده ، فإن كان ما فعله عتقا أو صوما أو صلاة أو نحوها وقع تطوعا أو صدقة ، فإن علم القابض أنه عن صفة كذا وأنه تبين له خلافه رجع عليه وإلا فلا .

                                                                                                                            وكتب أيضا لطف الله به : قوله اجتهد ومثل ذلك ما لو شك في المنذور له أهو زيد أم عمرو ( قوله : لزمه ذلك جزما ) ويخرج عن نذر الأضحية بما يجزئ فيها وعن نذر العتق بما يسمى عتقا وإن لم يجز في الكفارة قياسا على ما مر في نذر اللجاج من أنه لو التزم عتقا تخير بين ما يسمى عتقا وإن لم تجز في الكفارة ( قوله لمصالح الحجرة الشريفة ) أي من بناء أو ترميم دون الفقراء ما لم يجر به العادة ( قوله : أو نذر ) أو نيته كما يعلم مما مر ( قوله : بل أولى لأنه ) أي النذر ، وقوله وإن شاركها : أي الوصية ( قوله : وصحته بالمعلوم والمعدوم ) جعل بعضهم منه نذرها لزوجها بما سيحدث لها [ ص: 223 ] من حقوق الزوجية ا هـ حج ( قوله : ما مر في الوصية ) أي وهو الصحة ( قوله : وتصحيح اللفظ ) أي الواجب ( قوله وإن خرب ) بالكسر كما في المختار .



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            [ ص: 221 ] قوله : ولم يذكر شيئا ) يعني مصرفا كما في بعض النسخ ويدل له ما بعده ( قوله صحة لله أو علي التصدق إلخ ) سقط من الشارح لفظ علي عقب لله ولعله من النساخ وهو في التحفة على الصواب ( قوله غفل عن تصوير أصله إلخ ) عبارة التحفة : غفلة عن أن تصوير أصله لصورة البطلان بما إذا لم يذكر التصدق والصحة بما إذا ذكر ألفا أو شيئا مجرد تصوير إذ الفارق إلخ وهي الصواب ( قوله : وفيما إذا عين أهل الذمة أو أهل البدعة ) انظر ما صورة النذر لهم وليراجع [ ص: 222 ] نظيره المار في الوصية ( قوله : قاله القاضي ) عبارة القاضي إذا قال إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بخمس ما يحصل لي من المعشرات فشفي يجب التصدق به .

                                                                                                                            وبعد إخراج الخمس يجب العشر في الباقي إن كان نصابا ، ولا عشر في ذلك الخمس لأنه لفقراء غير معينين ، فأما إذا قال لله علي أن أتصدق بخمس مالي يجب إخراج العشر ثم ما بقي بعد إخراج العشر يخرج منه الخمس انتهت .

                                                                                                                            قال الأذرعي : ويشبه أن يفصل في الصورة الأولى ، فإن تقدم النذر على اشتداد الحب فكما قال ، وإن نذر بعد اشتداده وجب إخراج العشر أولا من الجميع انتهى [ ص: 223 ] قوله يخرب ) هو بفتح الراء وماضيه الآتي بكسرها




                                                                                                                            الخدمات العلمية