الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( و ) يكون الإجمال أيضا في مرجع ( صفة ) نحو قولك : زيد طبيب ماهر . فيحتمل عود " ماهر " إلى ذات زيد ، ويحتمل أن يعود إلى وصفه المذكور وهو " طبيب " ولا شك أن المعنى متفاوت باعتبار الاحتمالين ، لأنا إن أعدنا " ماهر " إلى " طبيب " ، فيكون ماهرا في طبه ، وإن أعدنا " ماهر " إلى " زيد " ، فتكون مهارته في غير الطب ، وهو من المجمل باعتبار التركيب . صرح به البرماوي وغيره ( و ) يكون الإجمال أيضا في ( تعدد مجاز عند تعذر الحقيقة ) نحو قوله صلى الله عليه وسلم { لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها فأكلوا ثمنها } لأن قوله ذلك ، لو لم يعم جميع التصرفات لما اتجه اللعن فيقدر الجميع ، لأنه الأقرب إلى الحقيقة ( و ) يكون الإجمال أيضا في ( عام خص بمجهول ) نحو اقتلوا المشركين إلا بعضهم ، لأن العام إذا خص [ ص: 429 ] بمجهول صار الباقي محتملا . فكان مجملا ( و ) كذا عام خص ب ( مستثنى وصفة مجهولين ) مثال المستثنى المجهول : قوله سبحانه وتعالى { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم } فإنه قد استثنى من المعلوم ما لم يعلم . فصار الباقي محتملا .

فكان مجملا . ومثال ما خص بصفة مجهولة نحو " محصنين " في قوله تعالى { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين } وموجب الإجمال : أن الإجمال غير مبين . فكان صفة مجهولة ( ولا إجمال في إضافة تحريم إلى عين ) نحو { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } وهذا الصحيح الذي عليه أكثر العلماء . وخالف في ذلك بعض من أصحابنا والشافعية والأكثر من الحنفية ، واستدل للأول بأن تحريم العين غير مراد ، لأن التحريم إنما يتعلق بفعل المكلف . فإذا أضيف إلى عين من الأعيان يقدر الفعل المقصود منه . ففي المأكولات : يقدر الأكل ، وفي المشروبات : الشرب وفي الملبوسات : اللبس . وفي الموطوآت : الوطء . فإذا أطلق أحد هذه الألفاظ سبق المعنى المراد إلى الفهم من غير توقف . فتلك الدلالة متضحة لا إجمال فيها .

قال المخالفون : إسناد التحريم إلى العين لا يصح ، لأنه إنما يتعلق بالفعل . فلا بد من تقديره . وهو محتمل لأمور لا حاجة إلى جميعها ، ولا مرجح لبعضها . فكان مجملا . قلنا : المرجح موجود . وهو العرف ، فإنه قاض بأن المراد ما ذكرنا ، ولأن الصحابة احتجوا بظواهر هذه الأمور ، ولم يرجعوا إلى غيرها . فلو لم تكن من المبين لم يحتجوا بها ( وهو عام ) يعني أن التحريم المضاف إلى العين عام ، لأنه إذا احتمل أمورا متعددة لم يدل الدليل على تعيين شيء منها قدرت كلها .

لأن حملها على بعضها ترجيح من غير مرجح . وهذا اختيار القاضي وابن عقيل والحلواني والفخر وغيرهم . وقدمه ابن مفلح . وذكره أبو الطيب عن قوم من الحنفية . قال ابن العراقي : لا إجمال في { حرمت عليكم أمهاتكم } لأن العرف دل على التعميم . فيتناول العقد والوطء . وقال في العام : العرف دل على أن المراد تحريم الاستمتاعات المقصودة من النساء ، من الوطء ومقدماته . واختيار أبي الخطاب [ ص: 430 ] والموفق والمالكية ، وجماعة من المعتزلة : انصراف إطلاق التحريم في كل عين إلى المقصود اللائق بها . لأنه المتبادر لغة وعرفا . وقيل : لا عموم له أصلا وتوصف العين بالحل والحرمة حقيقة على الصحيح من مذهبنا ومذهب الحنفية . نقله البرماوي عنهم في كلامه على الرخصة وقال التميمي والشافعية وصف العين بالحل والحرمة مجاز ورده ابن مفلح وقال بل توصف العين بالحل والحظر حقيقة فهي محظورة علينا ومباحة لوصفها بطهارة ونجاسة وطيب وخبث فالعموم في لفظ التحريم ا هـ ( ولا ) إجمال في ( وامسحوا برءوسكم ) عند أكثر العلماء ; لأن الباء للإلصاق ، ومع الظهور لا إجمال . وقيل : مجمل لتردده بين مسح الكل والبعض وحكي عن الحنفية . قال ابن قاضي الجبل وغيره : والقائلون بعدم الإجمال فريقان ، الجمهور منهم قالوا : إنه بوضع حكم اللغة ظاهر في مسح جميع الرأس ; لأن الباء حقيقة في الإلصاق ، وقد ألصقت المسح بالرأس ، وهو اسم لكله ، لا لبعضه . لأنه لا يقال لبعض الرأس رأس ، فيكون ذلك مقتضيا مسح جميعه ، وهو قول أحمد وأصحابه ومالك والباقلاني ، وابن جني كآية التيمم . يعني قوله تعالى { فامسحوا بوجوهكم } ومنهم من زعم أن عرف الاستعمال الطارئ على الوضع يقتضي إلصاق المسح ببعض الرأس ، وهو مذهب الشافعي ، ومن وافقه ( ولا ) إجمال ( في ) قوله صلى الله عليه وسلم { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان } عند الجمهور .

وقيل : مجمل لتردده بين نفي الصورة والحكم . وأيضا إذا لم يكن نفي المذكور مرادا فلا بد من إضمار لمتعلق الرفع . وهو متعدد فحصل الإجمال . وأجيب عن الأول : بأن نفي الصورة لا يمكن أن يكون مرادا ، لما فيه من نسبة كلامه صلى الله عليه وسلم إلى الكذب والخلف . فتعين أن المراد نفي الحكم ، وعن الثاني - وهو احتمال المضمرات - بأنه قد دل الدليل على المراد ، إما بالعرف أو غيره ، كما سبق في " حرمت عليكم الميتة " ( ولا ) إجمال ( في آية السرقة ) وهي قوله سبحانه وتعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } في اختيار أكثر العلماء ، لأن " اليد " حقيقة إلى المنكب ، ولصحة إطلاق بعض اليد لما دونه .

والقطع حقيقة في إبانة المفصل . فلا إجمال في شيء منهما ، فإطلاقها إلى الكوع مجاز قام الدليل على إرادته في الآية . وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع ، وقال بعض الحنفية : الإجمال في " اليد " وفي " القطع " لأن " اليد " تطلق على ما هو إلى الكوع ، وعلى ما هو إلى المنكب ، وعلى ما هو إلى المرفق .

فتكون مشتركا . وهو من المجمل . و " القطع " يطلق على الإبانة ، وعلى الجرح [ ص: 431 ] فيكون مجملا ، والجواب : أن المسألة لغوية . و " اليد " حقيقة إلى المنكب .

و " القطع " حقيقة في الإبانة وظاهر فيهما . قال ابن مفلح : ولهذا لما نزلت آية التيمم تيممت الصحابة معه صلى الله عليه وسلم إلى المناكب ، وأيضا : لو كان مشتركا في الكوع والمرفق والمنكب لزم الإجمال ، والمجاز أولى منه ، على ما سبق واستدل للثاني بأنه يحتمل الاشتراك والتواطؤ وحقيقة أحدهما ، ووقوع واحد من اثنين أقرب من الإجمال ( ولا ) إجمال أيضا ( في ) قوله تعالى : ( وأحل الله البيع ) عند الأكثر . وخالف في ذلك الحلواني من أصحابنا ، وبعض الشافعية ، وللقاضي أبي يعلى القولان . قال البرماوي ، ومنشأ الخلاف : أن " أل " التي في " البيع " هل هي للشمول أو عهدية ، أو للجنس من غير استغراق ، أو محتملة ؟ انتهى . قال : واختلف أيضا في قوله تعالى { وآتوا الزكاة } على قولين أحدهما : عام خصصته السنة ، والثاني : مجمل بينته السنة ، وهنا سؤال ، وهو : أن اللفظ في كل من الآيتين مفرد معرف . فإن عم من حيث اللفظ فليعم في الاثنين ، أو المعنى فليعم فيهما أيضا . وإن لم يعم لا من حيث اللفظ ولا المعنى فهما مستويان ، مع أن الصحيح في آية البيع : العموم . وفي آية الزكاة : الإجمال . وجوابه : أن في ذلك سرا . وهو أن حل البيع على وفق الأصل من حيث إن الأصل في المنافع الحل ، والمضار الحرمة بأدلة شرعية . فمهما حرم البيع فهو خلاف الأصل . وأما الزكاة : فهي خلاف الأصل ، لتضمنها أخذ مال الغير بغير إرادته . فوجوبها على خلاف الأصل . والأخبار الواردة في الباب مشعرة بهذا المعنى . فلذلك اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم ببيان المبايعات الفاسدة كالنهي عن بيع حبل الحبلة ، والمنابذة ، والملامسة ، وغير ذلك . بخلاف الزكاة فإنه لم يعتن فيها ببيان ما لا زكاة فيه . فمن ادعى وجوبها في مختلف فيه - كالرقيق والخيل - فقد ادعى حكما على خلاف الدليل . وأما تردد الشافعي في آية البيع : هل المخصص أو المبين لها الكتاب أو السنة ، دون الزكاة ؟ فلأنه تعالى عقبه على البيع بقوله تعالى " وحرم الربا " والربا من أنواع البيع اللغوية . ولم يعقب آية الزكاة [ ص: 432 ] بشيء . والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية