( باب الظاهر لغة ) أي في اللغة خلاف الباطن . وهو ( الواضح ) المنكشف . ومنه ظهر الأمر : إذا اتضح وانكشف . ويطلق على الشيء الشاخص المرتفع ، كما أن الظاهر من الأشخاص : هو المرتفع الذي تبادر إليه الأبصار كذلك في المعاني ( و ) الظاهر ( اصطلاحا ) أي في اصطلاح الأصوليين ( ما ) أي لفظ ( دل دلالة ظنية وضعا ) كأسد ( أو عرفا ) كغائط . فالظاهر الذي يفيد معنى مع احتمال غيره ، لكنه ضعيف ، فبسبب ضعفه خفي . فلذلك سمي اللفظ لدلالته على مقابله - وهو القوي - ظاهرا كالأسد ، فإنه ظاهر في الحيوان المفترس ويحتمل أن يراد به الرجل الشجاع مجازا . لكنه احتمال ضعيف ، والكلام في دلالة اللفظ الواحد ليخرج المجمل مع المبين ; لأنه - وإن أفاد معنى لا يحتمل غيره - فإنه لا يسمى مثله نصا ( والتأويل لغة : الرجوع ) وهو من آل يئول : إذا رجع . ومنه قوله تعالى { ابتغاء تأويله } أي طلب ما يئول إليه معناه ، وهو مصدر أولت الشيء ، أي فسرته ، من آل إذا رجع ; لأنه رجوع من الظاهر إلى ذلك الذي آل إليه في دلالته قال الله تعالى { هل ينظرون إلا تأويله } أي ما يئول إليه بعثهم ونشورهم . وأكثر ما يستعمل " التأويل " في المعاني وأكثره في الجمل ، وأكثر ما يستعمل " التفسير " في الألفاظ ، وأكثره في المفردات ( و ) التأويل ( اصطلاحا : حمل ) معنى ( ظاهر ) اللفظ ( على ) معنى ( محتمل مرجوح ) وهذا يشمل التأويل الصحيح والفاسد . ( وزد ) [ ص: 442 ] في الحد ( لصحيحه ) أي إن أردت أن تحد التأويل الصحيح - قولك ( بدليل ) أي حمله بدليل ( يصيره ) أي يصير الحمل ( راجحا ) على مدلوله الظاهر ، فيصير حد التأويل الصحيح : حمل ظاهر على محتمل مرجوح بدليل يصير راجحا ، وعلم مما تقدم أن الحمل بلا دليل محقق ، لشبه يخيل للسامع أنها دليل وعند التحقيق تضمحل - يسمى تأويلا فاسدا .
وأن حمل معنى اللفظ على ظاهره لا يسمى تأويلا ، وكذا حمل " المشترك " ونحوه من المتساوي على أحد محمليه أو محامله لدليل ، إذا تقرر هذا ( فإن قرب ) ( كفى أدنى مرجح ) نحو قوله سبحانه وتعالى { التأويل إذا قمتم إلى الصلاة } أي إذا عزمتم على القيام ( وإن بعد ) التأويل من الإرادة ; لعدم قرينة عقلية أو حالية ، أو مقالية تدل عليه ( افتقر ) في حمل اللفظ عليه ، وصرفه عن الظاهر ( إلى أقوى ) مرجح ( وإن تعذر ) الحمل لعدم الدليل ( رد ) التأويل وجوبا .
( فمن ) التأويل ( البعيد تأويل الحنفية { } اختر - وفي لفظ : { قوله صلى الله عليه وسلم لمن أسلم على عشر نسوة } على ابتداء النكاح ، أو إمساك الأوائل ) أي ابتداء نكاح أربع منهن إن كان عقد عليهن معا ، وإن كان تزوجهن متفرقات على إمساك الأربع الأوائل ، ووجه بعده أن الفرقة لو وقعت بالإسلام لم يخيره ، وقد خيره والمتبادر عند السماع من الإمساك : الاستدامة ، والسؤال وقع عنه وخص التزويج فيهن . ولم يبين له شروط النكاح مع مسيس الحاجة إليه ، لقرب إسلامه . أمسك - منهن أربعا وفارق سائرهن
وأيضا لم ينقل عنه ، ولا عن غيره ممن أسلم على أكثر من أربع : أنه جدد النكاح وأيضا فالابتداء محتاج إلى رضى من يبتديها ويصير التقدير : فارق الكل وابتدئ بعد ذلك من شئت . فيضيع قوله { } ; لأنه قد لا يرضين أو بعضهن وأيضا الأمر للوجوب وكيف يجب عليه ابتداؤه . وليس بواجب في الأصل ومن ثم قال اختر أربعا أبو زيد الدبوسي من الحنفية : هذا الحديث لا تأويل فيه ولو صح عندي لقلت به ( وأبعد منه ) أي من التأويل السابق تأويلهم ( قوله صلى الله عليه وسلم لمن أسلم عن أختين { } [ ص: 443 ] على أحد الأمرين ) يعني على ابتداء نكاح إحداهما ، إن كان قد تزوجهما في عقد واحد ، أو إمساك الأولى منهما ، إن كان قد تزوجهما مفترقتين . اختر أيتهما شئت
وإنما كان أبعد من الذي قبله ; لأن النافي للتأويل المذكور في الأول : هو الأمر الخارج عن اللفظ ، وهو شهادة الحال ، وهنا انضم إلى شهادة الحال مانع لفظا . وهو قوله عليه الصلاة والسلام { } فإن بتقدير نكاحهما على الترتيب تعيين الأولى للاختيار ولفظ { أيتهما شئت } يأباه . وللحنفية تأويل ثالث في الحديثين وهو أنه لعله أن يكون هذا كان قبل حصر النساء في أربع ، وقبل تحريم الجمع بين الأختين وهو مردود بما سبق ( و ) تأويلهم أيضا ( إطعام ستين مسكينا ) من قوله - سبحانه وتعالى - { أيتهما شئت فإطعام ستين مسكينا } ( على إطعام طعام ستين ) فعلى هذا التأويل : لو رددها المخرج على مسكين واحد ستين يوما أجزأته قالوا : لأن المقصود دفع الحاجة ودفع حاجة ستين كحاجة واحد في ستين يوما . فجعلوا المعدوم - وهو : طعام " - مذكورا مفعولا به . والمذكور - وهو قوله " ستين " - معدوما لم يجعلوه مفعولا به ، مع ظهور قصد العدد لفضل الجماعة وبركتهم وتضافرهم على الدعاء للمحسن .
وهذا لا يوجد في الواحد وأيضا حمله على ذلك تعطيل للنص ، ولهذه الحكمة شرعت الجماعة في الصلاة وغيرها وأيضا فلا يجوز استنباط معنى من النص يعود عليه بالإبطال ( وأبعد من ذلك ) المتقدم ذكره من التأويل ( تأويلهم ) ما في رواية أبي داود والترمذي من حديث رضي الله تعالى عنهما في الغنم ( { ابن عمر } على قيمتها ) أي قيمة شاة قالوا : لأن اندفاع الحاجة كما يكون بالشاة يكون بالقيمة وهو يؤدي إلى بطلان الأصل ; لأنه إذا وجبت القيمة لم تجب الشاة فعاد هذا الاستنباط على النص بالإبطال ، وذلك غير جائز ، ورد بأنهم لم يبطلوا إخراج الشاة بل قالوا بالتخيير بين الشاة وقيمة الشاة وهو استنباط يعود بالتعميم ، كما في { في أربعين شاة شاة } يعم في الخرق ونحوها ، وفي { وليستنج بثلاثة أحجار } يعم في كل ما يشوش الفكر ولا يعود بالإبطال . لا يقضي القاضي وهو غضبان
وأجيب عن ذلك : بأن الشارع لعله راعى أن يأخذ [ ص: 444 ] الفقير من جنس مال الغني فيتشاركان في الجنس فتبطل القيمة فعاد بالبطلان من هذه الجهة وباب الزكاة فيه ضرب من التعبد قال البرماوي : وأيضا فإذا كان التقدير " قيمة شاة " يكون قولهم بإجزاء الشاة ليس بالنص : بل بالقياس فيترك المنصوص ظاهرا ويخرج ، ثم يدخل بالقياس ، فهذا عائد بإبطال النص لا محالة . انتهى .
ووجه كونه أبعد مما قبله : لأنه يلزم أن لا تجب الشاة كما تقدم . وكل فرع استنبط من أصل يبطل ببطلانه ( و ) تأويلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن والدارقطني رضي الله عنها { عائشة } وفي رواية { أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل } ( على الصغيرة والأمة والمكاتبة ) ووجه بعد هذا التأويل : أن الصغيرة ليست بامرأة في لسان باطل باطل باطل العرب وقد ألزموا بسقوط هذا التأويل على مذهبهم فإن الصغيرة لو زوجت نفسها كان العقد عندهم صحيحا لا يتوقف على إجازة الولي قاله البرماوي . فلما ألزموا بذلك فروا إلى حمله على الأمة فألزموا ببطلانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم { } ومهر الأمة إنما هو لسيدها ففروا من ذلك إلى حمله على المكاتبة فقيل لهم : هو أيضا باطل ; لأن حمل صيغة العموم الصريحة وهي " أي " المؤكدة بما معها في قوله " أيما " على صورة نادرة لا تخطر ببال المخاطبين غالبا في غاية البعد . فلها المهر
( و ) تأويلهم أيضا { } رواه لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل أبو داود والترمذي ، والنسائي عن وابن ماجه على خلاف في رفعه ووقفه ( على ) صوم ( القضاء والنذر المطلق ) بناء منهم على مذهبهم في صحة الفرض بنية من النهار قال ابن عمر : فجعلوه كاللغز في حملهم العام على صورة نادرة فإن ثبت ما ادعوه من الحكم بدليل - كما قالوا - فليطلب لهذا الحديث تأويل قريب عن هذا التأويل مثل نفي الكمال . قال ابن الحاجب إمام الحرمين : وهو أقرب من التأويل السابق ( و ) تأويلهم أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الإمام أحمد من حديث وابن حبان مرفوعا ( { أبي سعيد } على التشبيه ) ونصب { ذكاة الجنين ذكاة أمه } على تقدير كذكاة أمه ، فنصب على إسقاط الخافض ، وهو [ ص: 445 ] كاف التشبيه قال ذكاة أمه : تقديرهم حذف الكاف ليس بشيء ; لأنه يلزم منه جواز قولك : زيد عمرا ، أي كعمرو وأيضا فحذف حرف الخفض من غير سبق فعل يدل على التوسع فيه وعلى تقدير صحته : فيجوز أن يكون على الظرفية ، أي وقت ذكاة أمه ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهذا دليل الجماعة ; لأن الثاني إنما يكون وقتا للأول إذا أغنى الفعل الثاني عن الأول ، ويرجح هذا التقدير موافقته لرواية الرفع . ابن عمرون
لكن الجمهور وهموا رواية النصب وقالوا : المحفوظ الرفع كما قاله وغيره ، إما لأن " ذكاة " الأول خبر مقدم . و " ذكاة " الثاني هو المبتدأ ، أي ذكاة أم الجنين ذكاة له ، وإلا لم يكن للجنين مزية . وحقيقة الجنين ما كان في البطن فعلم أنه ليس المراد أنه يذكى كذكاة أمه ، بل إن ذكاة أمه ذكاة له كافية عن تذكيته . ويؤيده رواية الخطابي { البيهقي } ( و ) تأويلهم أيضا قوله - سبحانه وتعالى - في آيتي الفيء والغنيمة ( { ذكاة الجنين في ذكاة أمه ولذي القربى } : على الفقراء ) دون الأغنياء ( منهم ) أي من ذوي القربى قالوا : لأن المقصود دفع الخلة ، ولا خلة مع الغنى فعطلوا لفظ العموم مع ظهور أن القرابة هي سبب استحقاقهم ولو مع الغنى ، لتعظيمها وتشريفها مع إضافته فاللام التمليك ، ولا يلزمنا نحن المالكية والشافعية ذلك في اليتيم ، للخلاف فيه فإن عللوا بالفقر ولم تكن قرابة عطلوا لفظ " ذي القربى " ، وإن اعتبروهما معا فلا يبعد وغايته : تخصيص عموم ، كما فعله في أحد القولين في تخصيص اليتامى بذوي الحاجة . الشافعي
( و ) من التأويل البعيد تأويل ( المالكية والشافعية ) متن حديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطبراني والترمذي - وقال : لا نعرفه مسندا إلا من حديث حماد عن عن قتادة وروي من قول الحسن ، ومن قول عمر - وهو ( { الحسن } على عمودي نسبه ) ، وإنما كان بعيدا : لقصر اللفظ العام على بعض مدلولاته من غير دليل قال من ملك ذا رحم محرم فهو حر ابن مفلح وغيره : لعموم اللفظ وظهور قصده للتنبيه على حرمة المحرم وصلته قال الكوراني : فإن قلت لما وجه ما ذهب إليه ، إذا لم يكن هذا التأويل صحيحا عندكم ؟ قلت : لما دل الدليل على أن الرق لا يزول إلا بالعتق قاس عتق [ ص: 446 ] الأصول والفروع على وجوب النفقة ، إذ لا تجب عنده إلا للأصول والفروع أو بالحديث الصحيح الوارد في الشافعي { مسلم } أي بنفس الشراء وقد وافقه الخصم على هذا ، وبالآية الكريمة في عتق الولد وهي قوله تعالى { لا يجزي ولد والده إلا أن يجده عبدا فيشتريه فيعتقه وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } وجه الدلالة : أنه سبحانه وتعالى أبطل إثبات الولدية بإثبات العبودية فعلم أنهما لا يجتمعان .