الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولم يزل الله تعالى متكلما كيف شاء وإذا شاء بلا كيف ، يأمر بما شاء ويحكم ) قال الشيخ تقي الدين : تنازع العلماء في أن الرب تعالى هل يتكلم بمشيئته وقدرته أم لا ؟ على قولين . فابن كلاب ومن وافقه قالوا : لا يتكلم بمشيئته وقدرته ، بل كلامه لازم لذاته كحياته ، ثم من هؤلاء من عرف أن الحروف والأصوات لا تكون إلا متعاقبة ، والصوت لا يبقى زمانين ، فضلا عن أن يكون قديما . فقال : القديم معنى واحد ، لامتناع معان لا نهاية لها ، وامتناع التخصيص بعدد دون عدد . فقالوا : هو معنى واحد ، وقالوا : إن الله تعالى لا يتكلم بالكلام العربي والعبري ، وقالوا : إن معنى التوراة والإنجيل والقرآن وسائر كتب الله تعالى معنى واحد ، وقالوا معنى آية الكرسي وآية الدين معنى واحد ، إلى غير ذلك من اللوازم التي يقول جمهور العقلاء إنها معلومة الفساد بضرورة العقل ، ومن هؤلاء من عرف أن الله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن العربي ، والتوراة العبرية ، وأنه نادى موسى بصوت ، وينادي عباده بصوت ، وأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى حروفه ومعانيه ، لكن اعتقدوا - مع ذلك - أنه قديم العين .

وأن الله سبحانه وتعالى لم يتكلم بمشيئته وقدرته . فالتزموا أنه حروف وأصوات قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال ، وقالوا : إن الباء لم تسبق السين ، وأن السين لم تسبق الميم ، وأن جميع الحروف مقترنة ببعضها اقترانا قديما أزليا ، لم يزل ولا يزال ، وقالوا : هي مترتبة في حقيقتها وماهيتها ، غير مترتبة في وجودها . وقال كثير منهم : إنها مع ذلك شيء واحد ، إلى غير ذلك من اللوازم التي يقول جمهور العقلاء : إنها معلومة الفساد بضرورة العقل ومن هؤلاء من يقول : هو قديم ، ولا يفهم معنى القديم . والقول الثاني : أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بقدرته ومشيئته ، مع أنه غير مخلوق . وهذا قول جماهير أهل السنة والنظر وأئمة أهل السنة والحديث ، لكن من هؤلاء من اعتقد أن الله تعالى لم يكن يمكنه أن يتكلم في الأزل بمشيئته . كما لم يكن يمكنه عندهم أن يفعل في الأزل شيئا ، فالتزموا أنه تكلم بمشيئته بعد أن لم يكن متكلما ، كما أنه [ ص: 170 ] فعل بعد أن لم يكن فاعلا ، وهذا قول كثير من أهل الكلام والحديث والسنة .

وأما السلف والأئمة فقالوا : إن الله سبحانه وتعالى يتكلم بمشيئته وقدرته . وإن كان مع ذلك قديم النوع ، بمعنى أنه لم يزل متكلما إذا شاء . فإن الكلام صفة كمال ، ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام ممكنا له بعد أن يكون ممتنعا منه ، أو قدر أن ذلك ممكن . فكيف إذا كان ممتنعا ؟ لامتناع أن يصير الرب قادرا بعد أن لم يكن ، وأن يكون التكلم والفعل ممكنا بعد أن كان غير ممكن ؟ انتهى . وقال ابن قاضي الجبل في أصوله في الأمر : الأمر قسم من أقسام الكلام ، والكلام الألفاظ المتضمنة لمعانيها . والإنسان قبل تلفظه يقوم بقلبه طلب فيفزع إلى اللفظ ، كما إذا قال : اسقني ماء ، كأنه يجد طلبا قائما بقلبه . فيقصد اللفظ . واختلف الناس في حقيقة ذلك الطلب . فقالت طائفة : هو قسم من أقسام العلم . وقالت أخرى : إرادة الفعل . وقالت الأشعرية : هو كلام النفس ، وهو مغاير للعلم والإرادة . وأنكرت الجماهير والمعتزلة قيام معنى بالنفس غير العلم والإرادة . وقالوا : القائم بالقلب هو صورة ما تريد النطق به .

قال أبو الحسين البصري : الذي يجده الإنسان في نفسه قبل أن يتكلم : هو استحضار صور الكلام والعلم بما يقوله شيئا فشيئا ، والعزم على إيراده باللسان ، كما يستحضر صورة الكتابة قبل أن يكتب ، ولا مقتضى لإثبات أمر غير ما ذكرناه قال : ولو ثبت لم يكن كلاما في اللغة ، ولا يسمى الإنسان لأجله متكلما ولذلك يقول أهل اللغة للساكت : إنه غير متكلم ، وإن جاز أن يقوم به ذلك المعنى .

لا يقولون للساكت : إنه غير مريد ، ولا عالم . قال : وقول أهل اللغة : في نفسي كلام مجاز . والمراد بذلك عزم على الكلام ، كقولهم : في نفسي السفر . قال : ولو ثبت في النفس معنى هو الكلام عن الاعتقادات والعزم ، لكان محدثا ; لأن الذي يشيرون إليه مرتب يتجدد في النفس بعضه بعد بعض ، ومرتب حسب ترتيب الكلام المسموع . فإن كان كلام الله تعالى معنى ما في النفس من الكلام في الشاهد : استحال قدمه ، وإن لم يكن معناه ، بطل قولهم : إن ما أثبتناه معقول [ ص: 171 ] في الشاهد وقالت الأشاعرة : ذلك المعنى القائم بالنفس هو الكلام . والحروف والأصوات دلالات عليه ومعرفات ، وأنه حقيقة واحدة . هي الأمر والنهي والخبر والاستخبار ، وأنها صفات له ، لا أنواع . فإن عبر عنه بالعربية كان عربيا ، أو السريانية كان سريانيا . وكذلك في سائر اللغات ، وأنه لا يتبعض ولا يتجزأ ، ثم اختلفوا . فقال إمام الحرمين وغيره : الكلام المطلق حقيقة : هو ما في النفس ، شاهدا أو غائبا ، وإطلاق الكلام على الحروف والأصوات مجاز . وقال جمهورهم : يطلق على كل منهما بالاشتراك اللفظي . وقال بعضهم : هو حقيقة في اللسان مجاز في النفسي . وليس الخلاف جاريا في نفس الكلام ، بل ما يتعلق به من الأمر والنهي والخبر والتصديق والتكذيب ، ونحو ذلك من عوارض الكلام .

قال الرازي في الأربعين : ماهية ذلك الطلب مغايرة لذلك اللفظ ، ويدل عليه وجوه . أحدها : أن ماهية هذا المعنى لا تتبدل باختلاف الأمكنة والأزمنة ، والألفاظ الدالة على هذا المعنى تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة . قال ابن قاضي الجبل : قيل عليه وجهان . أحدهما : إن أردت اختلاف أجناسها ، فهذا مسلم ولا ينفعك ، وإن أردت اختلاف قدرها وصفتها فممنوع ، لأنا لا نسلم أن الطلب الحاصل باللفظ العربي الفصيح مع الصوت الجهوري مماثل للطلب باللفظ الأعجمي مع الصوت الضعيف . وهذا لأن القائم بالنفس قد يتفاوت ، فيكون طلب أقوى من غيره وأكمل . الثاني : هب أن المدلول متحد والدال مختلف . لكن لم لا يجوز وجود المدلول مشروطا بالدليل ؟ فهو وإن غايره لكن لا يوجد إلا بوجوده .

ألا ترى أن كون الإنسان مخبرا لغيره لا بد فيه من أمر ظاهر يدل على ما في باطنه من المعنى . وذلك الأمر الظاهر وإن اختلف ، لكن لا يكون مخبرا إلا به .

وإذا لاح لك ذلك لم يكن مجرد كون المعنى مغايرا كافيا في مطلوبه . وهذا كما أن المعنى قائم بالروح ، واللفظ قائم بالبدن ، ثم إن وجود الروح في هذا العالم لا يمكن إلا مع البدن . وأيضا فكون كل من المتلازمين دليلا على الآخر لا يقتضي ذلك وجود المدلول بدون الدليل ، كالأمور المتضايفة ، كالأبوة والبنوة . قال [ ص: 172 ] الرازي : الوجه الثاني : أن جميع العقلاء يعلمون بالضرورة أن قول القائل : افعل ، دليل على ذلك الطلب بالقلب . والدليل مغاير للمدلول . قال ابن قاضي الجبل : هب أن الأمر كذلك ، لكن لم يجمعوا على أنه يوجد المدلول بدون دليله .

قال الرازي ، الوجه الثالث : أن جميع العقلاء يعلمون بالضرورة : أن قول القائل : افعل ، لا يكون طلبا وأمرا إلا عند اصطلاح الناس على هذا الوضع . فأما كون ذلك المعنى القائم بالقلب طلبا فإنه أمر ذاتي حقيقي ، لا يحتاج فيه إلى الوضع والاصطلاح . قال ابن قاضي الجبل : قيل : ما ذكرت ممنوع . فإن أكثر الناس لا يجعلون اللغات اصطلاحية ، بل إما توقيفية بإلهام أو بغير إلهام . والنزاع في ذلك مشهور .

ولو سلم ، فلم قلت بإمكان وجوده بدون اللفظ ؟ قال الرازي : الوجه الرابع : هو أنهم قالوا : إن قولنا : ضرب ، ويضرب إخبار ، وقولنا : اضرب ولا تضرب ، أمر ونهي ، ولو أن الواضعين قلبوا الأمر وقالوا بالعكس لكان جائزا . أما لو قالوا : إن حقيقة الطلب يمكن أن تقلب خبرا أو حقيقة الخبر يمكن أن تقلب طلبا ، لكان ذلك محالا . قال ابن قاضي الجبل : قيل : لو سلم لم يلزم أن لا يكون وجود أحدهما مشروطا بالآخر . وأيضا أنتم ادعيتم أن حقيقة الطلب وحقيقة الخبر شيء واحد ، بل ادعى الرازي أن حقيقة الطلب داخلة في حقيقة الخبر . فقال في كون كلام الله تعالى واحدا أمر ونهي وخبر : إنه يرجع إلى حرف واحد ، وهو الكلام كله خبر ; لأن الأمر عبارة عن تعريف فعله أنه لو فعله لصار مستحقا للذم . وكذا القول في النهي وإذا كان مرجع الكل إلى شيء واحد - وهو الخبر - صح أن كلام الله واحد .

قال ابن قاضي الجبل : احتج الجمهور بالكتاب والسنة واللغة والعرف . أما الكتاب فقوله تعالى { آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } فلم يسم الإشارة كلاما ، وقال لمريم { فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إن الله تعالى عفا [ ص: 173 ] لأمتي عن الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به } وقسم أهل اللسان الكلام إلى اسم وفعل وحرف .

واتفق الفقهاء كافة على أنه من حلف لا يتكلم لم يحنث بدون النطق ، وإن حدثته نفسه . فإن قيل : الأيمان مبناها على العرف . قيل : الأصل عدم التغيير . وأهل العرف يسمون الناطق متكلما ومن عداه ساكتا أو أخرس . فإن قالوا : قوله تعالى " { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } أكذبهم الله تعالى في شهادتهم . ومعلوم صدقهم في النطق اللساني .

فلا بد من إثبات كلام في النفس ليكون الكلام عائدا إليه . فقوله تعالى { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } وقوله تعالى " { استكبروا في أنفسهم } وقوله تعالى " { وأسروا قولكم أو اجهروا به } وقوله تعالى " { ونعلم ما توسوس به نفسه } قال ابن قاضي الجبل : أما الأول : فلأن الشهادة هي الإخبار عن الشيء مع اعتقاده . فلما لم يكونوا معتقدين ذلك أكذبهم الله تعالى . وعن الثاني وجهان . الأول : أنه قوله بحروف وأصوات خفية ، ولهذا فسره بما بعده . الثاني : أنه قول مفيد ، فهو مجاز وهو الجواب عن الإسرار والجهر . وعن الثالث : أن الاستكبار رؤية النفس وهو خارج عن ذلك .

قالوا : قول عمر " زورت في نفسي كلاما " قلنا " زور " صور ما يريد النطق به ، أو كقول القائل : زورت في نفسي بناء أو سفرا . قالوا : قول الأخطل :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

قلنا : البيت موضوع على الأخطل . فليس هو في نسخ ديوانه ، وإنما هو لابن ضمضم . ولفظه : إن البيان . وسيأتي : وقال الآمدي ، فإن قيل : إذا جعلتم الحقائق - التي هي الأمر والنهي والخبر والاستخبار - شيئا واحدا ، لزمكم أن تردوا الصفات إلى معنى واحد . قلنا : هو سؤال وارد . ولعل عند غيرنا حله . وقال أبو نصر السجزي : قولهم " لا تتبعض " يرد عليه أن موسى صلى الله عليه وسلم سمع بعض كلام الله ، ولا يمكن أن يقال : سمع الكل .

وقال [ ص: 174 ] ابن درباس الشافعي : وكذلك قوله تعالى " { ففهمناها سليمان } مع التصريح باختصاص موسى بالكلام . انتهى كلام ابن قاضي الجبل .

وقال الشيخ تقي الدين : في فتيا له تسمى بالأزهرية . ومن قال : إن القرآن عبارة عن كلام الله تعالى وقع في محذورات . أحدها " قولهم : إن هذا ليس هو كلام الله " فإن نفي هذا الإطلاق خلاف ما علم بالاضطرار من دين الإسلام ، وخلاف ما دل عليه الشرع والعقل . والثاني : قولهم " عبارة " إن أرادوا أن هذا الثاني هو الذي عبر عن كلام الله تعالى القائم بنفسه ، لزم أن يكون كل تال معبرا عما في نفس الله تعالى والمعبر عن غيره هو المنشئ للعبارة فيكون كل قارئ هو المنشئ لعبارة القرآن وهذا معلوم الفساد بالضرورة . وإن أرادوا أن القرآن العربي عبارة عن معانيه ، فهذا حق ; إذ كل كلام فلفظه عبارة عن معناه ، لكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام متناولا للفظ . والمعنى الثالث : أن الكلام قد قيل إنه حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى .

وقيل : حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ ، وقيل : بل حقيقة في كل منهما . والصواب الذي عليه السلف والأئمة : أنه حقيقة في مجموعهما ، كما أن الإنسان قيل : هو حقيقة في البدن فقط . وقيل : بل في الروح فقط . والصواب : أنه حقيقة في المجموع . فالنزاع في الناطق كالنزاع في منطقه . وإذا كان كذلك .

فالمتكلم إذا تكلم بكلام له لفظ ومعنى ، وبلغ عنه بلفظه ومعناه . فإذا قيل : ما بلغه المبلغ من اللفظ : إن هذا عبارة عن القرآن ، وأراد به المعنى الذي للمبلغ عنه نفى عنه اللفظ الذي للمبلغ عنه . والمعنى الذي قام بالمبلغ . فمن لم يثبت إلا القرآن المسموع ، الذي هو عبارة عن المعنى القائم بالذات . قيل له : فهذا الكلام المنظوم الذي كان موجودا قبل قراءة القراء هو موجود قطعا وثابت ، فهل هو داخل في العبارة والمعبر عنه غيره أو غيرهما ؟ فإن جعلته غيرهما : بطل اقتصارك على العبارة والمعبر عنه ، وإن جعلته أحدهما : لزمك إن لم تثبت إلا هذه العبارة ، والمعنى القائم بالذات أن تجعله نفس ما سمع من القراء ، فيجعل عين ما بلغه المبلغون هو عين ما سمعوه . وهذا الذي فررت منه . وأيضا فيقال له : القارئ [ ص: 175 ] المبلغ إذا قرأ ، فلا بد له فيما يقوم به من لفظ ومعنى ، وإلا كان اللفظ الذي قام به عبارة عن القرآن . فيجب أن يكون عبارة عن المعنى الذي قام به ، لا عن معنى قام بغيره فقولهم " هذا هو العبارة عن المعنى القائم بالذات " أخطئوا من وجهين أخطئوا في بيان مذهبهم . فإن حقيقة قولهم : إن اللفظ المسموع من القارئ حكاية اللفظ الذي عبر به عن معنى القرآن مطلقا . وذلك أن اللفظ عبارة عن المعنى القائم بالذات ، ولفظه ومعناه : حكاية عن ذلك اللفظ والمعنى . ثم إذا عرف مذهبهم بقي خطؤهم في أصول . منها : زعمهم أن معاني القرآن معنى واحد ، هو الأمر والنهي والخبر ، وأن معنى التوراة والإنجيل والقرآن معنى واحد ، ومعنى آية الكرسي معنى آية الدين . وفساد هذا معلوم بالضرورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية