الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الشيخ تقي الدين : ولا نزاع بين العلماء أن كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله ، ولا يباينه كلامه ، ولا شيء من صفاته ، بل ليس صفة شيء من موصوف تباين موصوفها وتنتقل عنه إلى غيره . فكيف يتوهم عاقل أن كلام الله يباينه ، وينتقل إلى غيره ؟ ولهذا قال أحمد : كلام الله من الله ليس ببائن منه . وقد جاء في الأحاديث والآثار { أنه منه بدأ ، ومنه خرج ، وإليه يعود } نصا منه ، ومن غيره عليه ، ومعنى ذلك : أنه هو المتكلم به ، أو الذي يخرج منه ، ولا يقتضي ذلك أنه يباينه وانتقل عنه . وقال : ومعلوم أن كلام المخلوق لا يباين محله . قال أحمد : منه بدأ وإليه يعود . وقال : منه بدأ علمه ، وإليه يعود حكمه . وقال تارة : منه خرج ، وهو المتكلم به ، وإليه يعود ، وهو القرآن . وقال تارة : القرآن من علم الله . قال ابن جلبة ، منا . يعني : على حد حقيقة العلوم ، وهي راجعة إلى الله ، وارتفاع القرآن دفعة واحدة عن الناس ، وترتفع تلاوته وأحكامه . فيعود إلى الله حقيقة بهما . وقال [ ص: 191 ] الحافظ عبد الغني : قال علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهم " القرآن كلام الله ، منه بدأ وإليه يعود " وقال سفيان بن عيينة سمعت عمرو بن دينار يقول : " أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون : القرآن كلام الله ، منه بدأ وإليه يعود " وروى الترمذي عن خباب بن الأرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إنكم لن تتقربوا إلى الله بأفضل مما خرج منه - يعني القرآن } وذهب أحمد وأكثر أصحابه إلى أن القرآن هو المقروء ، والتلاوة هو المتلو ، قال البيهقي : وأما ما نقل عن الإمام أحمد : أنه سوى بينهما . فإنما أراد حسم المادة ، لئلا يتدرج أحد إلى القول بخلق القرآن . كما نقل عنه أنه أنكر على من قال : لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق . حسما للمادة انتهى . وإلا فلا يخفى الفرق بينهما . وهو ظاهر . وقال مالك الصغير ابن أبي زيد القيرواني : إن الله مستو على عرشه بذاته . وأنه كلم موسى بذاته ، وأسمعه كلامه ، لا كلاما قام في غيره انتهى . وقال الطحاوي : إن القرآن كلام الله ، منه بدأ بلا كيفية قولا . وأنزله على رسوله وحيا وصدقه المؤمنون على ذلك حقا ، وأيقنوا أنه كلام الله بالحقيقة ، وهو صريح .

وقال أبو بكر بن خزيمة - منا - لم يزل الله متكلما ، ولا مثل لكلامه ، واستصوباه . ومن المستبعد جدا أن يكون هذا الكلام من الكتاب والسنة كله مجاز لا حقيقة فيه ، ولو في موضع واحد منه ، وبموضع واحد منه يحصل المطلوب . قال الطوفي : فإن قيل : هو حقيقة ، ولكن كما قررناه في الكلام النفسي بالاشتراك ، كما قلتم : إن الصفات الواردة في الشرع لله سبحانه وتعالى حقيقة ، لكن مخالفة للصفات المشاهدة ، وهي مقولة بالاشتراك . قلنا : نحن اضطررنا إلى القول بالاشتراك ، في الصفات لورود نصوص الشرع الثابتة بها . فأنتم ما الذي اضطركم إلى إثبات الكلام النفسي ؟ فإن قيل : دليل العقل الدال على أنه لا صوت ولا حرف إلا من جسم ، قلنا : فما أفادكم إثباته شيئا ; لأن الكلام النفسي الذي أثبتموه لا يخرج في الحقيقة عن أن يكون علما أو تصورا ، على ما سبق تقريره عن أئمتكم . [ ص: 192 ] فإن كان علما فقد رجعتم معتزلة ، ونفيتم الكلام بالكلية ، وموهتم على الناس بتسميتكم العلم كلاما . وإن كان تصورا ، فالتصور في الشاهد حصول صورة الشيء في العقل . وإنما يعقل في الأجسام . وإن عنيتم تصورا مخالفا للتصور في الشاهد ، لائقا بجلال الله تعالى ، فأثبتوا كلاما عبارة عن خلاف الشاهد ، لائقة بجلاله تعالى ، وهذا كلام متين لا محيد للمنصف عنه . قال ابن حزم : أجمع المسلمون على أن الله تعالى كلم موسى ، وعلى أن القرآن كلام الله ، وكذا غيره من الكتب المنزلة والصحف . ثم اختلفوا ، فقالت المعتزلة : إن كلام الله صفة فعل مخلوق ، وأنه كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة . وقال أحمد وأتباعه : كلام الله هو علمه لم يزل ، وليس بمخلوق ، وقالت الأشاعرة : كلام الله صفة ذات لم تزل ، وليس بمخلوق ، وهو غير علم الله ، وليس لله تعالى إلا كلام واحد . واحتج لأحمد بأن الدلائل القاطعة قامت على أن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ، فلما كان كلامنا غيرنا وكان مخلوقا ، وجب أن يكون كلام الله ليس غيره ، وليس مخلوقا ، وأطال في الرد على المخالفين لذلك . وقال أيضا : اختلفوا . فقالت الجهمية والمعتزلة ، وبعض الزيدية ، والإمامية ، وبعض الخوارج : كلام الله مخلوق ، خلقه بمشيئته وقدرته في بعض الأجسام ، كالشجرة حين كلم موسى . وحقيقة قولهم : أن الله تعالى لا يتكلم ، وإن نسب إليه ذلك فبطريق المجاز . وقالت المعتزلة : يتكلم حقيقة ، لكن يخلق ذلك الكلام في غيره ، وقالت الكرامية : الكلام صفة واحدة قديمة العين ، لازمة لذات الله . كالحياة ، وأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته وتكليمه من كلمه : إنما هو خلق إدراك له يسمع به الكلام ، ونداؤه لموسى لم يزل ، لكنه أسمعه ذلك حين ناداه . ويحكى عن الماتريدي الحنفي أبي منصور نحوه ، لكن قال : خلق صوتا حين ناداه فأسمعه كلامه . وزعم بعضهم : أن هذا مراد السلف القائلين : إن القرآن ليس بمخلوق . [ وقالوا إذا كان الكلام قديما لعينه ، لازما لذات الرب ، وثبت أنه ليس بمخلوق ] فالحروف ليست قديمة ; لأنها متعاقبة ، وما كان مسبوقا بغيره ومفقودا حين التلفظ بغيره لم يكن قديما ، والكلام القديم معنى قائم بالذات لا يتعدد ولا يتجزأ ، بل هو معنى واحد إن عبر عنه بالعربية : [ ص: 193 ] فقرآن ، أو بالعبرانية : فتوراة مثلا . وذهب بعض الحنابلة وغيرهم إلى أن القرآن العربي كلام الله ، وكذلك التوراة ، وأن الله لم يزل متكلما إذا شاء ، وأنه تكلم بحروف القرآن ، وأسمع من شاء من الملائكة والأنبياء صوته ، وقالوا : إن هذه الحروف والأصوات قديمة العين ، لازمة للذات ، ليست متعاقبة ، بل لم تزل قائمة بذات مقترنة لا تسبق ، والتعاقب إنما يكون في حق المخلوق ، بخلاف الخالق .

وذهب أكثر هؤلاء إلى أن الأصوات والحروف هي المسموعة من القارئين ، وأبى ذلك كثير منهم ، فقالوا : ليست هي المسموعة من القارئين . وذهب بعضهم إلى أنه متكلم بالقرآن العربي بمشيئته وقدرته بالحروف والأصوات القائمة بالذات ، وهو غير مخلوق ، لكنه في الأزل لم يتكلم ، لامتناع وجود الحادثات في الأزل ، فكلامه حادث في ذاته ، لا محدث . وذهب الكرامية : إلى أنه حادث في ذاته ومحدث . وذكر الفخر الرازي : أن قول من قال : إنه تعالى يتكلم بكلام يقوم بذاته ومشيئته واختياره : هو أصح الأقوال نقلا وعقلا ، وأطال . والمحفوظ عن جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه ، والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله تعالى ، وأنه غير مخلوق ، ثم السكوت عما وراء ذلك . قاله ابن حجر .

التالي السابق


الخدمات العلمية