[ ص: 602 ] باب ) في بيان أحكام المستدل ، وما يتعلق به من بيان الاجتهاد والمجتهد والتقليد ، والمقلد ، ومسائل ذلك فنقول ( الاجتهاد ) افتعال من الجهد - بالضم والفتح - وهو الطاقة والاجتهاد ( لغة ) أي في اللغة ( استفراغ الوسع ) أي غاية ما يقدر على استفراغه ( لتحصيل أمر شاق ) . ( و ) معناه ( اصطلاحا : استفراغ الفقيه ) أي ذو الفقه وتقدم حد الفقيه ، وهو قيد مخرج للنبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه لا يسمى في العرف فقيها ، وللمقلد ( وسعه ) بحيث تحس النفس بالعجز عن زيادة استفراغه ( لدرك حكم ) يسوغ فيه الاجتهاد وهو الظني ( شرعي ) ليخرج العقلي والحسي ، ولم يقيده جماعة بذلك للاستغناء عنه بذكر الفقيه ; لأن الفقيه لا يتكلم إلا في الشرعي وقال الآمدي : هو استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس بالعجز عن المزيد عليه ( : كونه فقيها ، وهو ) أي الفقيه في الاصطلاح ( العالم بأصول الفقه ) أي بأن يكون له قدرة على استخراج أحكام الفقه من أدلتها ( وما يستمد منه ) أي من أصول الفقه ، ويتضمن ذلك : أن يكون عنده سجية وقوة يقتدر بها على التصرف بالجمع والتفريق والترتيب ، والتصحيح والإفساد ، فإن ذلك ملاك صناعة الفقه ، قال وشرط مجتهد الغزالي : إذا لم يتكلم الفقيه في مسألة لم يسمعها ، ككلامه في مسألة سمعها ، فليس بفقيه ، والذي يستمد منه أصول الفقه : هو الكتاب والسنة وما تفرع عنهما .
( و ) أن يكون عالما ب ( الأدلة السمعية مفصلة ، واختلاف مراتبها ) وليس المراد : أن يعرف سائر آيات القرآن ، وجميع أحاديث السنة ، وإنما المراد : ما يحتاج إلى معرفته ( فمن الكتاب والسنة : ما يتعلق بالأحكام ) وقد ذكروا أن الآيات خمسمائة آية ، وكأنهم أرادوا ما هو مقصود به الأحكام بدلالة المطابقة أما بدلالة الالتزام : فغالب القرآن ، بل كله ; لأنه لا يخلو شيء منه عن حكم يستنبط منه ، وليس المراد بعلمه بذلك حفظه ، بل المراد أن يكون ( بحيث يمكنه استحضاره للاحتجاج به ، لا حفظه ) يعني أنه لا يشترط في المجتهد حفظ ما يتعلق [ ص: 603 ] بالأحكام من الكتاب ، حيث أمكنه استحضار ذلك عند إرادة الاحتجاج به ( و ) يشترط في المجتهد أيضا أن يكون عالما ب ( الناسخ والمنسوخ منهما ) أي من الكتاب والسنة ، مما يستدل به على تلك الواقعة التي يفتي فيها من آية أو حديث ، حتى لا يستدل به إن كان منسوخا ، ولا يشترط أن يعرف جميع الناسخ والمنسوخ في جميع المواضع ( و ) يشترط في المجتهد أيضا : أن يكون عالما ب ( صحة الحديث وضعفه ) سندا ومتنا ، ليطرح الضعيف حيث لا يكون في فضائل الأعمال ، ويطرح الموضوع مطلقا ، وأن يكون عالما بحال الرواة في القوة والضعف ، ليعلم ما ينجبر من الضعف بطريق آخر ( ولو ) كان علمه بذلك ( تقليدا كنقله ) ذلك ( من كتاب صحيح ) من كتب الحديث المنسوبة لأئمته كمالك وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والدارقطني والترمذي وغيرهم ; لأنهم أهل المعرفة بذلك ، فجاز الأخذ بقولهم ، كما يؤخذ بقول المقومين في القيم . والحاكم
( و ) يشترط فيه أيضا : أن يكون في علمه ( من النحو واللغة ما يكفيه فيما يتعلق بهما ) أي بالنحو واللغة في كتاب الله سبحانه وتعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ( من نص ، و ) من ( ظاهر ، و ) من ( مجمل ، ومبين ، و ) من ( حقيقة ومجاز ، و ) من ( أمر ، ونهي ، و ) من ( عام ، وخاص ، و ) من ( مستثنى ومستثنى منه ، و ) من ( مطلق ، ومقيد ، و ) من ( دليل الخطاب ونحوه ) كفحوى الخطاب ولحنه ومفهومه ; لأن بعض الأحكام تتعلق بذلك ، ووقف عليه توقفا ضروريا ، لقوله سبحانه وتعالى " والجروح قصاص " ; لأن الحكم يختلف برفع " الجروح " ونصبها ، ولأن من لا يعرف ذلك لا يتمكن من استنباط الأحكام من الكتاب والسنة ; لأنهما في الذروة العليا من مراتب الإعجاز . فلا بد من معرفته أوضاع العرب ، بحيث يتمكن من حمل كتاب الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على ما هو الراجح من أساليب العرب ومواقع كلامها ، ولو كان غيره من المرجوح جائزا في كلامهم .
( و ) يشترط فيه أيضا : أن يكون عالما ب ( المجمع عليه والمختلف فيه ) حتى لا يفتي بخلاف ما أجمع عليه ، فيكون قد خرق الإجماع [ ص: 604 ] ( و ) ب ( أسباب النزول ) قاله ابن حمدان وغيره من أصحابنا وغيرهم في الآيات ، وأسباب قوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث ; ليعرف المراد من ذلك وما يتعلق بهما من تخصيص أو تعميم .
( و ) أن يكون عالما ب ( معرفة الله تعالى بصفاته الواجبة وما يجوز عليه ) - سبحانه وتعالى - ( و ) ما ( يمتنع ) عليه بأن يعلم أن الله - سبحانه وتعالى - حكيم ، عليم ، غني قادر ، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم معصوم عن الخطإ فيما شرعه ، وأن إجماع الأمة معصوم ، ولا تصح معرفته بذلك من حال الباري - سبحانه وتعالى - إلا بعد معرفته بذاته وصفاته ، ولا تصح معرفته بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد معرفته بكونه نبيا ، ولا تصح معرفته بعصمة الأمة حتى يعلم أنه يستحيل اجتماعهم على خطإ ، قال في الواضح في صفة المفتي : وهو الذي يعرف بالأدلة العقلية النظرية حدوث العالم ، وأن له صانعا ، وأنه واحد ، وأنه على صفات واجبة له ، وأنه منزه عن صفات المحدثين ، وأنه يجوز عليه إرسال الرسل ، وأنه قد أرسل رسلا بأحكام شرعها ، وأن صدقهم بما جاءوا به ثبت بما أظهره على أيديهم من المعجزات . انتهى .
; لأن المجتهد هو الذي يولدها ويتصرف فيها ، فلو كان ذلك شرطا فيها للزم الدور ; لأنها نتيجة الاجتهاد فلا يكون الاجتهاد نتيجتها ( و ) لا ( علم الكلام ) أي علم أصول الدين ، قاله الأصوليون ، لكن ( و ) لا يشترط في المجتهد أن يكون عالما ب ( تفاريع الفقه ) الرافعي قال : إن الأصحاب عدوا من شروط الاجتهاد معرفة أصول العقائد قال البرماوي : والجمع بين الكلامين ما أشار إليه الغزالي ، حيث قال : وعندي أنه يكفي اعتقاد جازم ، ولا يشترط معرفتها على طريقة المتكلمين بأدلتهم التي يحررونها . انتهى .
( ولا ) يشترط فيه أيضا ( معرفة أكثر الفقه ) قال ابن مفلح : واعتبر بعض أصحابنا وبعض الشافعية : معرفة أكثر الفقه والأشهر : لا ; لأنه نتيجته . انتهى . إذا تقرر هذا فما سبق من الشروط : ففي المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرع بما يؤديه إليه اجتهاده .