وأن الله سبحانه وتعالى لم يتكلم بمشيئته وقدرته . فالتزموا أنه حروف وأصوات قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال ، وقالوا : إن الباء لم تسبق السين ، وأن السين لم تسبق الميم ، وأن جميع الحروف مقترنة ببعضها اقترانا قديما أزليا ، لم يزل ولا يزال ، وقالوا : هي مترتبة في حقيقتها وماهيتها ، غير مترتبة في وجودها . وقال كثير منهم : إنها مع ذلك شيء واحد ، إلى غير ذلك من اللوازم التي يقول جمهور العقلاء : إنها معلومة الفساد بضرورة العقل ومن هؤلاء من يقول : هو قديم ، ولا يفهم معنى القديم . والقول الثاني : أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بقدرته ومشيئته ، مع أنه غير مخلوق . وهذا قول جماهير أهل السنة والنظر وأئمة أهل السنة والحديث ، لكن من هؤلاء من اعتقد أن الله تعالى لم يكن يمكنه أن يتكلم في الأزل بمشيئته . كما لم يكن يمكنه عندهم أن يفعل في الأزل شيئا ، فالتزموا أنه تكلم بمشيئته بعد أن لم يكن متكلما ، كما أنه [ ص: 170 ] فعل بعد أن لم يكن فاعلا ، وهذا قول كثير من أهل الكلام والحديث والسنة .
وأما السلف والأئمة فقالوا : إن الله سبحانه وتعالى يتكلم بمشيئته وقدرته . وإن كان مع ذلك قديم النوع ، بمعنى أنه لم يزل متكلما إذا شاء . فإن الكلام صفة كمال ، ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام ممكنا له بعد أن يكون ممتنعا منه ، أو قدر أن ذلك ممكن . فكيف إذا كان ممتنعا ؟ لامتناع أن يصير الرب قادرا بعد أن لم يكن ، وأن يكون التكلم والفعل ممكنا بعد أن كان غير ممكن ؟ انتهى . وقال ابن قاضي الجبل في أصوله في الأمر : الأمر قسم من أقسام الكلام ، والكلام الألفاظ المتضمنة لمعانيها . والإنسان قبل تلفظه يقوم بقلبه طلب فيفزع إلى اللفظ ، كما إذا قال : اسقني ماء ، كأنه يجد طلبا قائما بقلبه . فيقصد اللفظ . واختلف الناس في حقيقة ذلك الطلب . فقالت طائفة : هو قسم من أقسام العلم . وقالت أخرى : إرادة الفعل . وقالت الأشعرية : هو كلام النفس ، وهو مغاير للعلم والإرادة . وأنكرت الجماهير والمعتزلة قيام معنى بالنفس غير العلم والإرادة . وقالوا : القائم بالقلب هو صورة ما تريد النطق به .
قال أبو الحسين البصري : الذي يجده الإنسان في نفسه قبل أن يتكلم : هو استحضار صور الكلام والعلم بما يقوله شيئا فشيئا ، والعزم على إيراده باللسان ، كما يستحضر صورة الكتابة قبل أن يكتب ، ولا مقتضى لإثبات أمر غير ما ذكرناه قال : ولو ثبت لم يكن كلاما في اللغة ، ولا يسمى الإنسان لأجله متكلما ولذلك يقول أهل اللغة للساكت : إنه غير متكلم ، وإن جاز أن يقوم به ذلك المعنى .
لا يقولون للساكت : إنه غير مريد ، ولا عالم . قال : وقول أهل اللغة : في نفسي كلام مجاز . والمراد بذلك عزم على الكلام ، كقولهم : في نفسي السفر . قال : ولو ثبت في النفس معنى هو الكلام عن الاعتقادات والعزم ، لكان محدثا ; لأن الذي يشيرون إليه مرتب يتجدد في النفس بعضه بعد بعض ، ومرتب حسب ترتيب الكلام المسموع . فإن كان كلام الله تعالى معنى ما في النفس من الكلام في الشاهد : استحال قدمه ، وإن لم يكن معناه ، بطل قولهم : إن ما أثبتناه معقول [ ص: 171 ] في الشاهد وقالت الأشاعرة : ذلك المعنى القائم بالنفس هو الكلام . والحروف والأصوات دلالات عليه ومعرفات ، وأنه حقيقة واحدة . هي الأمر والنهي والخبر والاستخبار ، وأنها صفات له ، لا أنواع . فإن عبر عنه بالعربية كان عربيا ، أو السريانية كان سريانيا . وكذلك في سائر اللغات ، وأنه لا يتبعض ولا يتجزأ ، ثم اختلفوا . فقال إمام الحرمين وغيره : الكلام المطلق حقيقة : هو ما في النفس ، شاهدا أو غائبا ، وإطلاق الكلام على الحروف والأصوات مجاز . وقال جمهورهم : يطلق على كل منهما بالاشتراك اللفظي . وقال بعضهم : هو حقيقة في اللسان مجاز في النفسي . وليس الخلاف جاريا في نفس الكلام ، بل ما يتعلق به من الأمر والنهي والخبر والتصديق والتكذيب ، ونحو ذلك من عوارض الكلام .
قال الرازي في الأربعين : ماهية ذلك الطلب مغايرة لذلك اللفظ ، ويدل عليه وجوه . أحدها : أن ماهية هذا المعنى لا تتبدل باختلاف الأمكنة والأزمنة ، والألفاظ الدالة على هذا المعنى تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة . قال ابن قاضي الجبل : قيل عليه وجهان . أحدهما : إن أردت اختلاف أجناسها ، فهذا مسلم ولا ينفعك ، وإن أردت اختلاف قدرها وصفتها فممنوع ، لأنا لا نسلم أن الطلب الحاصل باللفظ العربي الفصيح مع الصوت الجهوري مماثل للطلب باللفظ الأعجمي مع الصوت الضعيف . وهذا لأن القائم بالنفس قد يتفاوت ، فيكون طلب أقوى من غيره وأكمل . الثاني : هب أن المدلول متحد والدال مختلف . لكن لم لا يجوز وجود المدلول مشروطا بالدليل ؟ فهو وإن غايره لكن لا يوجد إلا بوجوده .
ألا ترى أن كون الإنسان مخبرا لغيره لا بد فيه من أمر ظاهر يدل على ما في باطنه من المعنى . وذلك الأمر الظاهر وإن اختلف ، لكن لا يكون مخبرا إلا به .
وإذا لاح لك ذلك لم يكن مجرد كون المعنى مغايرا كافيا في مطلوبه . وهذا كما أن المعنى قائم بالروح ، واللفظ قائم بالبدن ، ثم إن وجود الروح في هذا العالم لا يمكن إلا مع البدن . وأيضا فكون كل من المتلازمين دليلا على الآخر لا يقتضي ذلك وجود المدلول بدون الدليل ، كالأمور المتضايفة ، كالأبوة والبنوة . قال [ ص: 172 ] الرازي : الوجه الثاني : أن جميع العقلاء يعلمون بالضرورة أن قول القائل : افعل ، دليل على ذلك الطلب بالقلب . والدليل مغاير للمدلول . قال ابن قاضي الجبل : هب أن الأمر كذلك ، لكن لم يجمعوا على أنه يوجد المدلول بدون دليله .
قال الرازي ، الوجه الثالث : أن جميع العقلاء يعلمون بالضرورة : أن قول القائل : افعل ، لا يكون طلبا وأمرا إلا عند اصطلاح الناس على هذا الوضع . فأما كون ذلك المعنى القائم بالقلب طلبا فإنه أمر ذاتي حقيقي ، لا يحتاج فيه إلى الوضع والاصطلاح . قال ابن قاضي الجبل : قيل : ما ذكرت ممنوع . فإن أكثر الناس لا يجعلون اللغات اصطلاحية ، بل إما توقيفية بإلهام أو بغير إلهام . والنزاع في ذلك مشهور .
ولو سلم ، فلم قلت بإمكان وجوده بدون اللفظ ؟ قال الرازي : الوجه الرابع : هو أنهم قالوا : إن قولنا : ضرب ، ويضرب إخبار ، وقولنا : اضرب ولا تضرب ، أمر ونهي ، ولو أن الواضعين قلبوا الأمر وقالوا بالعكس لكان جائزا . أما لو قالوا : إن حقيقة الطلب يمكن أن تقلب خبرا أو حقيقة الخبر يمكن أن تقلب طلبا ، لكان ذلك محالا . قال ابن قاضي الجبل : قيل : لو سلم لم يلزم أن لا يكون وجود أحدهما مشروطا بالآخر . وأيضا أنتم ادعيتم أن حقيقة الطلب وحقيقة الخبر شيء واحد ، بل ادعى الرازي أن حقيقة الطلب داخلة في حقيقة الخبر . فقال في كون كلام الله تعالى واحدا أمر ونهي وخبر : إنه يرجع إلى حرف واحد ، وهو الكلام كله خبر ; لأن الأمر عبارة عن تعريف فعله أنه لو فعله لصار مستحقا للذم . وكذا القول في النهي وإذا كان مرجع الكل إلى شيء واحد - وهو الخبر - صح أن كلام الله واحد .
قال ابن قاضي الجبل : احتج الجمهور بالكتاب والسنة واللغة والعرف . أما الكتاب فقوله تعالى { آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } فلم يسم الإشارة كلاما ، وقال لمريم { فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { } وقسم أهل اللسان الكلام إلى اسم وفعل وحرف . إن الله تعالى عفا [ ص: 173 ] لأمتي عن الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به
واتفق الفقهاء كافة على أنه من حلف لا يتكلم لم يحنث بدون النطق ، وإن حدثته نفسه . فإن قيل : الأيمان مبناها على العرف . قيل : الأصل عدم التغيير . وأهل العرف يسمون الناطق متكلما ومن عداه ساكتا أو أخرس . فإن قالوا : قوله تعالى " { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } أكذبهم الله تعالى في شهادتهم . ومعلوم صدقهم في النطق اللساني .
فلا بد من إثبات كلام في النفس ليكون الكلام عائدا إليه . فقوله تعالى { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } وقوله تعالى " { استكبروا في أنفسهم } وقوله تعالى " { وأسروا قولكم أو اجهروا به } وقوله تعالى " { ونعلم ما توسوس به نفسه } قال ابن قاضي الجبل : أما الأول : فلأن الشهادة هي الإخبار عن الشيء مع اعتقاده . فلما لم يكونوا معتقدين ذلك أكذبهم الله تعالى . وعن الثاني وجهان . الأول : أنه قوله بحروف وأصوات خفية ، ولهذا فسره بما بعده . الثاني : أنه قول مفيد ، فهو مجاز وهو الجواب عن الإسرار والجهر . وعن الثالث : أن الاستكبار رؤية النفس وهو خارج عن ذلك .
قالوا : قول " زورت في نفسي كلاما " قلنا " زور " صور ما يريد النطق به ، أو كقول القائل : زورت في نفسي بناء أو سفرا . قالوا : قول عمر : الأخطل
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
قلنا : البيت موضوع على . فليس هو في نسخ ديوانه ، وإنما هو الأخطل لابن ضمضم . ولفظه : إن البيان . وسيأتي : وقال الآمدي ، فإن قيل : إذا جعلتم الحقائق - التي هي الأمر والنهي والخبر والاستخبار - شيئا واحدا ، لزمكم أن تردوا الصفات إلى معنى واحد . قلنا : هو سؤال وارد . ولعل عند غيرنا حله . وقال : قولهم " لا تتبعض " يرد عليه أن أبو نصر السجزي موسى صلى الله عليه وسلم سمع بعض كلام الله ، ولا يمكن أن يقال : سمع الكل .وقال [ ص: 174 ] ابن درباس الشافعي : وكذلك قوله تعالى " { ففهمناها سليمان } مع التصريح باختصاص موسى بالكلام . انتهى كلام ابن قاضي الجبل .
وقال الشيخ تقي الدين : في فتيا له تسمى بالأزهرية . ومن قال : إن القرآن عبارة عن كلام الله تعالى وقع في محذورات . أحدها " قولهم : إن هذا ليس هو كلام الله " فإن نفي هذا الإطلاق خلاف ما علم بالاضطرار من دين الإسلام ، وخلاف ما دل عليه الشرع والعقل . والثاني : قولهم " عبارة " إن أرادوا أن هذا الثاني هو الذي عبر عن كلام الله تعالى القائم بنفسه ، لزم أن يكون كل تال معبرا عما في نفس الله تعالى والمعبر عن غيره هو المنشئ للعبارة فيكون كل قارئ هو المنشئ لعبارة القرآن وهذا معلوم الفساد بالضرورة . وإن أرادوا أن القرآن العربي عبارة عن معانيه ، فهذا حق ; إذ كل كلام فلفظه عبارة عن معناه ، لكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام متناولا للفظ . والمعنى الثالث : أن الكلام قد قيل إنه حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى .
وقيل : حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ ، وقيل : بل حقيقة في كل منهما . والصواب الذي عليه السلف والأئمة : أنه حقيقة في مجموعهما ، كما أن الإنسان قيل : هو حقيقة في البدن فقط . وقيل : بل في الروح فقط . والصواب : أنه حقيقة في المجموع . فالنزاع في الناطق كالنزاع في منطقه . وإذا كان كذلك .
فالمتكلم إذا تكلم بكلام له لفظ ومعنى ، وبلغ عنه بلفظه ومعناه . فإذا قيل : ما بلغه المبلغ من اللفظ : إن هذا عبارة عن القرآن ، وأراد به المعنى الذي للمبلغ عنه نفى عنه اللفظ الذي للمبلغ عنه . والمعنى الذي قام بالمبلغ . فمن لم يثبت إلا القرآن المسموع ، الذي هو عبارة عن المعنى القائم بالذات . قيل له : فهذا الكلام المنظوم الذي كان موجودا قبل قراءة القراء هو موجود قطعا وثابت ، فهل هو داخل في العبارة والمعبر عنه غيره أو غيرهما ؟ فإن جعلته غيرهما : بطل اقتصارك على العبارة والمعبر عنه ، وإن جعلته أحدهما : لزمك إن لم تثبت إلا هذه العبارة ، والمعنى القائم بالذات أن تجعله نفس ما سمع من القراء ، فيجعل عين ما بلغه المبلغون هو عين ما سمعوه . وهذا الذي فررت منه . وأيضا فيقال له : القارئ [ ص: 175 ] المبلغ إذا قرأ ، فلا بد له فيما يقوم به من لفظ ومعنى ، وإلا كان اللفظ الذي قام به عبارة عن القرآن . فيجب أن يكون عبارة عن المعنى الذي قام به ، لا عن معنى قام بغيره فقولهم " هذا هو العبارة عن المعنى القائم بالذات " أخطئوا من وجهين أخطئوا في بيان مذهبهم . فإن حقيقة قولهم : إن اللفظ المسموع من القارئ حكاية اللفظ الذي عبر به عن معنى القرآن مطلقا . وذلك أن اللفظ عبارة عن المعنى القائم بالذات ، ولفظه ومعناه : حكاية عن ذلك اللفظ والمعنى . ثم إذا عرف مذهبهم بقي خطؤهم في أصول . منها : زعمهم أن معاني القرآن معنى واحد ، هو الأمر والنهي والخبر ، وأن معنى التوراة والإنجيل والقرآن معنى واحد ، ومعنى آية الكرسي معنى آية الدين . وفساد هذا معلوم بالضرورة .