الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : ثم إن الشافعي عارضهم في هذا الفصل الرابع ، بما تناقضت فيه مذاهبهم ، وخالفوا به أصول الكتاب والسنة من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهم حكموا في الاستهلال بشهادة امرأة واحدة ، وهو مما يراه الرجال ، وهذا إنما أورده عليهم ، لأنهم منعوا من اليمين مع الشاهد ، لأن الله تعالى قد استوفى الشهادات في كتابه ، ولم يذكر اليمين مع الشاهد ، فصار زائدا على النص [ ص: 104 ] المفضي إلى النسخ ، فأورد عليهم شهادة المرأة الواحدة في الاستهلال عند التنازع فيه وليست المرأة الواحدة ببينة ، ولا لها في النص ذكر ، والشاهد واليمين أقوى منها ، فكيف رددتم الأقوى ، وأجزتم الأضعف ؟ وجعلتم الأقوى زائدا على النص المفضي إلى النسخ ؟ ولم تجعلوا ذلك في الأضعف ؟ هل هو إلا تناقض في القول ، وإبطال لمعنى النص في شهادة النساء بقوله تعالى : " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ البقرة : 282 ] . فاقتصروا على المرأة الواحدة ، وإن لم تذكر إحداهما الأخرى .

                                                                                                                                            والثاني : أن قال لمعتقد مذهب أبي حنيفة : كيف حكمت على أهل محلة ، وعلى عواقلهم بدية الموجود قتيلا في محلتهم في ثلاث سنين ؟ وزعمت أن القرآن يحرم أن يجوز أقل من شاهد وامرأتين وزعمت أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن اليمين براءة لمن حلف ، فخالفت في جملة قولك الكتاب والسنة ؟ وأراد الشافعي بهذا الرد عليهم في أمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهم أجازوا في القسامة ما تمنع منه الأصول بغير أصل ، وردوا مع الشاهد ، وهو غير مخالف للأصول ، وله فيه أصل .

                                                                                                                                            والثاني : أن السنة تدل على أن اليمين مبرئة ، وهم جعلوها ملزمة ، فعلقوا عليها ضد موجبها ، وليس يتعلق على الشاهد واليمين ضد موجبه ، فأجابوه عن اعتراضه عليهم بهذين الأمرين بأن قالوا : روينا هذا عن عمر ، فاتبعناه ، وكان أصلا فيه ، فرد الشافعي عليهم هذا من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : قال : إن عمر لا يستجيز أن يخالف الكتاب والسنة ، وقوله في نفسه : " البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه " ، وقد جعلوه بهذا مخالفا للكتاب والسنة ، وقول نفسه . ورددتم اليمين مع الشاهد ، وفيه سنة لا تخالف الكتاب ، ولا السنة .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن قال : قد روي عن عمر ما لم يعلموا به ، وخالفتموه في أربعة أحكام :

                                                                                                                                            أحدها : أنه جلبهم إلى مكة من مسيرة اثنين وعشرين يوما ، وهم لا يرون نقل الخصم من بلده إلى غير بلده .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أحلفهم في الحجر ، تغليظا بالمكان ، وهم لا يرون تغليظ الأيمان بالمكان .

                                                                                                                                            والثالث : أنه اختار من أهل الحجر خمسين رجلا أحلفهم ، وهم يجعلون الخيار لولي الدم دون الوالي .

                                                                                                                                            [ ص: 105 ] والرابع : أنه ألزمهم الدية ، لما حلفوا ، فقالوا : ما وفت أموالنا أيماننا ، ولا أيماننا أموالنا ، فقال : حقنتم بأيمانكم دماءكم ، فصرح بأنهم لو لم يحلفوا أقيدوا ، وهم لا يرون القود ، فلا بكل قول عمر أخذوا ، ولا لجميعه ردوا ، فإن كان قوله حجة فيما أخذوه كان حجة فيما ردوه ، وإن لم يكن حجة فيما ردوه ، فليس بحجة فيما أخذوه .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن قال لهم : عملتم بقول عمر في القسامة بما يخالف الأصول ، ولم تعملوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الشاهد واليمين وهو غير مخالف للأصول ، وهو حجة تدفع قول عمر ، وليس قول عمر حجة تدفع قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما خالف الأصول ممتنع ، وما لم يخالفها فتبع ، فعملوا بخلاف ما أوجبه الشرع ، وردوا ما ورد به الشرع .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية