الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 139 ] باب النكول ورد اليمين

                                                                                                                                            من الجامع ومن اختلاف الشهادات والحكام ومن الدعوى والبينات ومن إملاء في الحدود

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " ولا يقوم النكول مقام إقرار في شيء حتى يكون معه يمين المدعي ، فإن قيل : فكيف أحلفت في الحدود ، والطلاق ، والنسب ، والأموال ، وجعلت الأيمان كلها تجب على المدعى عليه ، وجعلتها ترد على المدعي ؟ قيل : قلته استدلالا بالكتاب ، والسنة ، ثم الخبر عن عمر حكم الله على القاذف غير الزوج بالحد ، ولم يجعل له مخرجا منه إلا بأربعة شهداء ، وأخرج الزوج من الحد بأن يحلف أربعة أيمان ويلتعن بخامسة ، فيسقط عنه الحد ويلزمها إن لم تخرج منه بأربعة أيمان والتعانها ، وسن بينهما الفرقة ، ودرأ الله عنهما الحد بالأيمان والتعانه ، وكانت أحكام الزوجين وإن خالفت أحكام الأجنبيين في شيء ، فهي مجامعة لها في غيره ، وذلك أن اليمين فيه جمعت درء الحد عن الرجل والمرأة ، وفرقة ، ونفي ولد ، فكان هذا الحد والفراق والنفي معا داخلة فيها ، ولا يحق الحد على المرأة حين يقذفها الزوج إلا بيمينه ، وتنكل عن اليمين ، ألا ترى أن الزوج لو لم يلتعن ، حد بالقذف ، ولترك الخروج منه باليمين ، ولم يكن على المرأة حد ولا لعان . أولا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصاريين : " تحلفون وتستحقون دم صاحبكم " ، فلما لم يحلفوا رد الأيمان على يهود ، ليبرءوا بها ، فلما لم يقبلها الأنصاريون تركوا حقهم ، أولا ترى عمر جعل الأيمان على المدعى عليهم ، فلما لم يحلفوا ردها على المدعين ، وكل هذا تحويل يمين من موضع قد ندبت فيه إلى الموضع الذي يخالفه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وعلى المدعى عليه اليمين " ولا يجوز أن يكون على مدعى عليه دون غيره إلا بخبر لازم وهما لفظان من رسول الله صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " مخرجهما واحد ، فكيف يجوز أن يقال إن جاء المدعي بالبينة أخذ ، وإن لم يأت بها حدث له حكم غيرها ، وهو استخلاف من ادعى عليه ، وإن جاء المدعى عليه باليمين برئ ، وإن لم يأت بها لزمه ما نكل عنه ، ولم يحدث له حكم غيرها ، ويجوز رد اليمين كما حدث للمدعي ، إن لم يأت بها حكم غيره ، وهو اليمين ، وإذ حول النبي صلى الله عليه وسلم اليمين حيث وضعها ، فكيف لم تحول كما حولها " .

                                                                                                                                            [ ص: 140 ] قال الماوردي : وهو كما قال .

                                                                                                                                            إذا نكل المنكر عن اليمين ، لم يحكم عليه بالنكول ، حتى يحلف المدعي ، فيستحق الدعوى بيمينه لا بنكول خصمه .

                                                                                                                                            قال الشافعي : " ليس النكول إقرارا منه بالحق ، ولا بينة للمدعي ، فلا أقضي عليه به .

                                                                                                                                            وهذا صحيح ، لأن الحقوق تثبت بالإقرار أو البينة ، وليس النكول واحدا منها ، وهو قول الأكثرين من الفقهاء والحكام .

                                                                                                                                            وسواء كانت الدعوى فيما لا يثبت إلا بشاهدين كالنكاح ، والطلاق ، والخلع ، والرجعة ، والقصاص ، والعتق ، أو كانت فيما تثبت بشاهد وامرأتين أو شاهد ويمين كالأموال أو ما يكون مقصوده المال .

                                                                                                                                            وقال مالك : لا أحكم عليه بالنكول ، لكن إن كانت الدعوى في مال يثبت بالشاهد والمرأتين رددت اليمين على المدعي ، وإن كانت فيما لا يثبت إلا بشاهدين كالنكاح والطلاق والعتق والقتل حبسته حتى يحلف أو يقر .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : أحكم عليه بالنكول في الأموال ، بعد أن أقول له ثلاثا : إن حلفت ، وإلا قضيت عليك ، ولا أحكم عليه بالقتل في النكول .

                                                                                                                                            وخالفه أبو يوسف ، فحكم عليه في القتل بالدية دون القود ، وحكم عليه فيما دون النفس بالقود .

                                                                                                                                            وإن كانت الدعوى في نكاح أو طلاق أو عتق أو نسب لم أوجب على المنكر اليمين ، ولم أحكم عليه بالنكول .

                                                                                                                                            ولوجوب الأيمان في جميع الدعاوى موضع يأتي ، وهذا الموضع مختص بالنكول عن اليمين إذا وجبت على المنكر ، هل يقضى عليه بنكوله عنها ؟

                                                                                                                                            واستدل من قضى عليه بالنكول ، ببنائه على مذهبه أن اليمين تختص بالمدعى عليه ، ولا يجوز أن تنقل إلى المدعي ، ولذلك لم يقض بالشاهد واليمين ، فكانت الدلائل مشتركة في الموضعين استدلالا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي حين أنكره الكندي : " ألك بينة " ؟ قال : لا . قال : " لك يمينه ليس لك منه إلا ذاك ، فبين له أن حقه في أحد أمرين بينته أو يمين خصمه ، فدل على أن لا حق له في يمين نفسه قالوا : ولأن البينة حجة للمدعي ، واليمين حجة للمدعى عليه ، فلما لم يجز أن تنقل حجة المدعي ، وهي البينة إلى المدعي ؛ لم يجز أن تنقل حق المدعى عليه وهو اليمين إلى المدعي [ ص: 141 ] قالوا : ولأن البينة موضوعة للإثبات ، واليمين موضوعة للنفي ، فلما لم يجز أن يعدل بالبينة إلى النفي ، لم يجز أن يعدل باليمين إلى الإثبات .

                                                                                                                                            قالوا : ولأنها قول المدعي ، فوجب أن لا يلزم به حكم كالدعوى .

                                                                                                                                            قالوا : ولأنه رجح دعواه بقوله ، فلم يقض فيه ، كتكرير الدعوى .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية