الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والضرب الثاني : ما كان من حقوق الآدميين ، وهي تنقسم ثلاثة أقسام تختلف في الجنس والعدد :

                                                                                                                                            أحدها : وهو أوسعها ، وهو ما يقبل فيه شاهدان وشاهد وامرأتان ، وشاهد ويمين ، وهو المال وما كان مقصوده المال ، لقول الله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان [ البقرة : 282 ] . وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين .

                                                                                                                                            والقول الثاني : ما يقبل فيه شهادة النساء منفردات ، وهو الولادة ، والاستهلال ، والرضاع ، وما لا يجوز أن يطلع عليه الرجال الأجانب من العيوب المستورة بالعورة ، فيقبل فيه أربع نسوة ، وجوز أبو حنيفة في الولادة قبول شهادة القابلة وحدها ، والكلام معه يأتي .

                                                                                                                                            فإن شهد بذلك شاهدان ، أو شاهد وامرأتان ، قبل ، لأن شهادة الرجال أغلظ ، ولا يقبل فيه شاهد ويمين .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : ما يقبل فيه شهادة رجلين ولا يقبل فيه شهادة النساء بحال ، وهو كل ما لم يكن مالا ولا المقصود منه المال ، ويجوز أن يطلع عليه الرجال الأجانب ، كالنكاح ، والطلاق ، والخلع ، والرجعة ، والقصاص ، والقذف ، والعتق ، والنسب ، والكتابة ، والتدبير ، وعقد الوكالة ، والوصية ، فلا يقبل في جميع ذلك شهادة النساء .

                                                                                                                                            وبه قال مالك ، والأوزاعي ، والنخعي ، وأكثر الفقهاء .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وسفيان الثوري : أقبل في جميع ذلك شهادة رجل وامرأتين إلا في القصاص والقذف ، استدلالا بقول الله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان [ البقرة : 282 ] . فكان محمولا على عمومه في كل حق إلا ما خصه دليل .

                                                                                                                                            [ ص: 9 ] قالوا : ولأنه حتى يثبت مع الشبهة ، فجاز أن يثبت بشاهد وامرأتين كالأموال .

                                                                                                                                            ودليلنا أن الله تعالى نص في الشهادة فيما سوى الأموال على الرجال دون النساء في ثلاثة مواضع في الطلاق والرجعة والوصية ، فقال تعالى : فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] . وقال في الوصية : إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم [ المائدة : 106 ] . فنص على شهادة الرجال ، فلم يجز أن يقبل فيه شهادة النساء كالزنى .

                                                                                                                                            فروى مالك ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز شهادة النساء في الحدود ، ولا في النكاح ، ولا في الطلاق .

                                                                                                                                            وهذا وإن كان مرسلا ، فهو لازم لهم ، لأن المراسيل حجة عندهم ، ولأن كلما لم يكن المقصود منه المال إذا لم يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد ، لم يقبلن فيه مع الرجال ، كالقصاص .

                                                                                                                                            وإن اعترضوا بالوكالة والوصية أن المال يتعلق بهما ، فهلا جاز إثباتهما بشاهد وامرأتين ؟

                                                                                                                                            قيل : ليس في عقد الوكالة والوصية مال ، وإنما أريد بهما التصرف في المال ، وإنما هي تولية أقيم الرجل فيها مقام غيره ، ولأن الحقوق ضربان : حقوق الله تعالى ، وحقوق الآدميين ، فلما وقع الفرق في حقوق الله تعالى ، بين أعلاها وأدناها في العدد . فأعلاها الزنى ، وأدناها الخمر ، وجب أن يقع الفرق في حقوق الآدميين بين أعلاها وأدناها في الجنس ، فأعلاها حقوق الأبدان ، وأدناها حقوق الأموال ، فأما الجواب عن الآية ، فهو أنها نص في الأموال ، فلم يصح استعمال العموم فيها .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الأموال ، فهو أنه يصح الإبراء منها والإباحة لها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية