الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

رؤية إسلامية في قضايا معاصرة

الدكتور / عماد الدين خليل

( 3 )

والحل الوحيد هـو (الدين) ، الذي يوقف الردة، ويحجم الاندفاع بالعين الواحدة، ويقضي على التشيؤ، والتسطح، في مجرى الحياة، ويعيد إليها تألقها، ونبضها، وتدفقها.. يمنحها عمقها المطلوب، لكي تكون موازية تماما للإنسان، هـذا الكائن المتفرد.. ولكي تستحق فعلا أن تعاش.

ليس أي دين.. وليس الأمر باجتهادات، أو وجهات نظر، أو أذواق وأهواء وظنون، تتلبس كتابات هـذا المفكر، أو ذاك، ودعوات هـذا الفيلسوف، أو الأديب أو ذاك، فتذهب حينا إلى الشرق الأقصى، تستعير منه ضلال البوذية أو البرهمية، وتستجدي عبث اليوكا، وخرافات النيرفانا، كما فعل الروائي الألماني هـيرمان هـيسه في (سدهارتا) ، وحينا إلى الغرب الأقصى، لكي تسترجع تفاهات الوثنيات الأمريكية العتيقة، كما فعل الروائي الأمريكي، جون شتاينبك في (البحث عن إله مجهول) . وترجع حينا آخر إلى المسيحية نفسها، باحثة منقبة، علها تجد في بقايا نسيجها المتهرئ، قيما تصلح للمحاولة، كما فعل المؤرخ والفيلسوف الإنكليزي أرنولد توينبي، في (دراسة للتاريخ) ، وتمضي حينا رابعا، وقد أصابها الإحباط، من المحاولات الفاشلة، لكي تصنع دينا على [ ص: 67 ] هواها، تلم أقسامه، وقطع غياره، من هـنا وهناك.. وتخيط هـنا، وترقع هـناك، فيما تسمية الديانة الثلاثية أو الرباعية! وهي لا تنسى - أحيانا - أن تلقي نظرة سريعة على الإسلام، لعلها تجد في بعض مفرداته، ما يعينها على استكمال محاولتها التوفيقية، أو الترقيعية تلك! كما فعل الأديب الأيرلندي برنارد شو، في (العودة إلى ميتو شالح) ، أو الأديب الإنكليزي كولن ولسون في (سقوط الحضارة) .. وغير هـؤلاء كثيرون..

إن هـذه الأهواء، والظنون، والمحاولات، التي تخضع الدين للمعطيات الوضعية، فيما يجعل الحالة مقلوبة، على رأسها، بدلا من أن تمضي على قدميها.. هـذه كلها، لا تعدو أن تكون عبثا.. باطل الأباطيل، وقبض الريح، إذا استعرنا كلمات السيد المسيح عليه السلام، وهي في نهاية الأمر، لا تأتي بأية نتيجة قبالة جدية الزحف التكنولوجي، وواقعيته الساحقة، ومنطقه الصارم، الذي لا يكون فيه حاصل جمع الواحد والواحد إلا اثنين، والذي تنتفي في شبكته، أية فرصة للصدفة، أو الاحتمال، أو الظن والهوى!

إن محاولات كهذه، فضلا عن هـزيمتها المؤكدة، ستمنح سلطة التكنولوجيا، فرصة أخرى لتأكيد وجودها، ولتفردها في حكم الحياة البشرية، وبالتالي، فإن أصحاب تلك المحاولات، سيخسرون مرتين، وسيخسر معهم الإنسان البائس التعيس، الذي ينتظر خلاصا، ليس بمقدور أحد من الغربيين أنفسهم، أن يقدمه إليه.

الحل الوحيد ليس في الدين على إطلاقه، أو في مطلق دين، كما يصطلح المناطقة، بعد أن عبثت الأهواء بالأديان، فحرفت كلماتها وتعاليمها، عن مواضعها، وغلبت عليها الأهواء والمصالح والظنون، واشترت بآيات الله ثمنا قليلا. كما أن الحل، ليس في ممارسة الخطيئة المنهجية، بتحكيم النسبي بالمطلق، والمحدود بالشامل، والعقل البشري، بمعطيات الوحي، عن طريق عملية انتقاء، وتلفيق، وترقيع يؤتى بقطعها، وتوصيلاتها من هـذا الدين أو ذاك، ومن هـذا المذهب الوضعي، أو ذاك، لكي يصاغ دين جديد، يمتزج فيه ما يجيء من عند الله، وما يهواه العبيد، ويكون ملائما لمطالب الإنسان. [ ص: 68 ]

إن الحل لن يكون إلا بدين متفرد واحد، هـو الإسلام، صادر عن مصدر واحد هـو الله سبحانه، ينطوي على نسيج متوحد في معطياته العقيدية، والسلوكية، والشعائرية، والتشريعية، على السواء، قدير على صياغة حياة متجانسة، ذات خصائص ومواصفات، مرسومة بالدقة، والإعجاز، اللذين يليقان بعلم الله سبحانه، ويستجيبان - بسبب من هـذا كله - لمطالب الإنسان، والحياة البشرية في أكثر صيغها صفاءا، ونقاءا، وتوحدا، وتوازنا، ومرونة، واستقامة، وسعادة، وفرحا، وإنجازا، وعطاء، وعمقا، وامتدادا..

وليس في هـذه الصفحات، مجال للإسهاب، في الحديث عن هـذه المواصفات والشروط، التي يطول الخوض فيها، ويتشعب، وإنما التأشير فقط، على أن الاستجابة للتحدي التكنولوجي، الذي يسعى للتفرد بالإنسان، وإحكام قبضته على الحياة البشرية، هـذه الاستجابة، لن تتحقق بالشكل المأمول، إلا عبر الإسلام، ومن خلاله:

أولا: بسبب من صدور هـذا الدين، عن الله سبحانه، ذي العلم المطلق، والخبرة اللامتناهية، بمطالب الإنسان، والحياة البشرية، وبسبب من مصداقية أصول هـذا الدين، متمثلة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بينما في الأديان المحرفة، يتداخل الإلهي بالبشري، بشكل عشوائي، وتفقد الأصول الدينية، توثيقها ومصداقيتها.

ثانيا: إن هـذا الدين هـو قمة الخبرات الدينية، التي تشكلت عبر رحلة الأديان السماوية، في مسار التاريخ، والتي أخذت صيغتها الأخيرة المتكاملة في الإسلام، بجوهره التوحيدي الخالص.

ثالثا: إن هـذا الدين، بسبب من الشرطين أو الخصيصتين السابقتين، يحقق أقصى حالات التوازن والوفاق، مع الإنسان، والحياة البشرية، ويقدم مشروعا، أو برنامج عمل، إذا ما تم التعامل معه بالجدية، والصدق المطلوب، فإنه سيصوغ الحياة المتوازنة السعيدة، التي يطمح إليها كل إنسان سوي، لأنها ستجيء على قياس الحياة البشرية نفسها، بكل أبعادها، وطبقاتها، وخبراتها المادية والجسدية، والحسية، والوجدانية، والروحية، والفردية، والجماعية. [ ص: 69 ]

رابعا: وهذا يعني أن الإسلام، بدلا من أن ينفي المعطيات التكنولوجية، التي تشكلت في الأساس للإعانة على الحياة البشرية، وإرفادها بالتيسيرات الأساسية، والتحرر من ضغوطها وضروراتها، فإنه - أي الإسلام - سيتبناها ويؤكدها، ويوظفها في مجرى الحياة، بعد أن يضعها في مكانها الحق، على خارطة هـذه الحياة، ويوازن معطياتها ومفرداتها، برؤيته الشاملة، وتأكيداته الروحية، وتجاوز الالتصاق بالمنظور القريب، إلى الآفاق الشاملة، التي تنطوي على البعد الغيبي، وتتطلع إلى السماء، وترى في الحياة الدنيا، طريقا إلى الآخرة، وتجعل من التجربة البشرية في العالم، تجربة نماء، وإعمار، وعطاء، ليست كهدف بحد ذاتها، وإنما كخطوة إيجابية، صوب أهداف أبعد، تتمحور في عبادة الله وحده، والتلقي عنه، والتوجه إليه، في الصيرورة والمصير.

خامسا: وتأسيسا على ذلك، فإن التعامل مع التكنولوجيا، ومع الخبرة المدنية والعملية عموما، واحتواءها، ليس مجرد موقف، لا يرتطم بخطط الإسلام ومشاريعه وتوجهاته، بل هـي جزء أساس من مطالب الإيمان، التي يتقرب بها الإنسان من الله سبحانه، كشفا وتشكيلا، وإنجازا، وتعاملا، والتي تمنح الحياة البشرية في ظلال الإسلام، فرصا أكثر فاعلية للتحقق، والتألق، والعطاء.

إن الإسلام -في ضوء هـذا- لا يحيد التكنولوجيا، أو يكتفي بالتصالح معها، وإنما يتبناها، ليس من أجل أن يكون الإنسان في خدمتها، وإنما لكي تكون هـي في خدمة الإنسان، هـذا الكائن المتفرد، ذي التكوين والخصائص المتفوقة، المتشابكة، الغنية، التي لن يكون كسبا للإنسان، التضحية بأي جانب منها، في سبيل أي شيء في هـذا العالم، والتي يجيء الإسلام، لكي يؤكدها، ويتبناها، ويمنحها فرصة التحقق، والفاعلية، والعطاء: ( فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم:30) . [ ص: 70 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية